الصحوة – شريفة التوبي
نحن لسنا أولاد المحبّة ولا أمها ولا أبيها، فليست المحبّة وحدها من صنعتنا، بل نحن أبناء القسوة إن صح التعبير، ونحن المدينون لها في كل ما وصلنا إليه، هي القسوة التي علّمتنا كيف نقاوم وجع الحياة، وكيف ننهض بعد سقوط، وكيف نستيقظ بعد سبات وغفلة، هي القسوة التي ساعدتنا لجبر أجنحة أرواحنا المتكسّرة، هي القسوة التي أعادت ولادتنا من رحم بارد في يوم عاصف وكأننا ولدنا من رحم جديد غير أرحام أمهاتنا الدافئة، هي القسوة التي جعلتنا أغرابًا عن كل شيء، إلى درجة أننا نكاد لا نعرف أنفسنا حينما ننظر إليها في مرآة الأمس المتشظّية، هي القسوة التي أعادت تربيتنا، وتشكيلنا حتى تساءلنا عن تلك السذاجة التي كنا عليها ونحن نرى كل شيء بعين المحبّة.
أخبرتنا القسوة أن المحبّة ضعف وأن الحياة لا تقبل الضعفاء والجبناء، وأخبرتنا القسوة أن العاطفة وجع وأن الحياة لا تداوي الموجوع ولا ترأف به، وأن القسوة ما أتت إلا بيد صديق أو حبيب. وحدها القسوة أخبرتنا بما لم تخبرنا به أمهاتنا وهنّ يدفعن بنا خارج أرحامهن إلى حياة غريبة قاسية.
الأمهات لا تكذب حينما تُحب، ذلك ما عرفناه وخبرناه في أنفسنا كأمهات، ولكن القسوة وحدها من أخبرتنا أن الأمهات ما كنّ صادقات حينما صوّرن لنا العالم بعدسة أعينهن الجميلة إلى درجة أننا ظننا أن كل إنسان في هذا العالم قلبه كقلب أم، وأن كل مخلوق في هذه الحياة يحمل صفات الأمهات، وأن كل من يرانا سيحبّنا كما أحبتنا أمهاتنا، وربما هذا هو الخطأ الذي ارتكبته أنا كوني أم في تربيتي لأبنائي، ففي اللحظة التي رأيت فيها ابني يحلّق بعيدًا عني خارج العش الذي بنيته له بكل ما أوتيت من عاطفة ومحبّة، اكتشفت أني نسيت أن أعلمه مواجهة القسوة وغفلت أن أخبره عنها، وكنت أظن أن الحُب الذي زرعته في قلبه كافيًا لأن يكون زوّادته للحياة التي سيعيشها في بلد غريب، وأصبح خوفي عليه مضاعف مما ملأت به حقائب روحه وقلبه وهو في عالم لن يحنو عليه كما أحنو، ولن يراه بالعين التي أراه بها، ولن يشعر به شعور قلبي به، لكن لعل قسوة الغربة ستخبره ما لم أخبره عنه.
إنها القسوة التي توجعنا حد التعب ولا نتعب وحد الموت ولا نموت، بل تتوالى صور القسوة حتى نتغيّر ونصبح أغرابًا عن أنفسنا غربة لا نحتملها في بداية الأمر، فنعيش حالة انفصال بيننا وبين أنفسنا وماضينا وحاضرنا وذكرياتنا وأحلامنا وتوقعاتنا، لكننا وكما نعتاد كل شيء نعتاد غربتنا، وكما نألف كل شيء نألفها، أغراب نمشي، وأغراب نأكل، وأغراب ننامس، وأغراب نلتقي، وأغراب نحيا، وأغراب نموت، و ومع هذه الغربة نتعايش مع ذلك الشعور المُر الذي نتجرّعه مع فنجان قهوتنا بتلذذ، ونكاد لا نشعر بوجع السوط الذي يجلد براءة قلوبنا وسذاجتها، هي القسوة التي ندين لها بما نحن عليه من صلابة وقدرة على المقاومة والتعايش، ونحن على يقين أن كل قسوة أوجعتنا ذات يوم كانت ميلاد جديد لنا.