الصحوة – ذكرى خصيب الرحبي
الشاعر الشهير سيف الرحبي، وهو شاعر وكاتب عماني اشتهر بكتابته لقصيدة النثر، وله عدة دواوين شعرية في ذلك. نستعرض معكم في هذا المقال حوار أجريته مع الدكتور حميد عامر الحجري في هذا الصدد، وتحديدا عن دراسته المعنونة بـ(الصورة الشعرية في شعر سيف الرحبي):
- ما الذي لفتك في شعر سيف الرحبي ودفعك لدراسته؟
كتصور شخصي لي أنا لوظيفة النقد، فإن النقد والدراسات الأدبية تكون مفيدة كلما تناولت ظواهر جديدة، لأنك أنت تسلط الضوء على ظاهرة ما زالت في طور التشكل وما زالت بالنسبة لكثيرين تمثل عوالم مستغلقة وغير مفهومة وغير مولوجة، فتسليط الضوء على الأنماط الشعرية الجديدة يفيد الحركة الشعرية أولا ويثري الحركة النقدية. السبب الأول هو أن الأنماط الشعرية الجديدة جديرة بالدرس والفحص العلمي، ثانيا تجربة سيف الرحبي تجربة مغرية بأن يخوض الإنسان غمار البحث فيها؛ لأن لها خصائص فنية وخصائص أسلوبية مع الاعتراف بصفة الاستغلاق والغموض ولكن قارئ القصيدة يشعر أن فيها نفسا وروحا تغريه بخوض غمارها، طبعا تجربة سيف بالنسبة لي كانت مستغلقة جزئيا لكن بعد الدرس تفتحت وتكشفت بشكل واضح، السبب الثالث هو أن تجربة سيف الرحبي حظيت باعتراف من قبل النقاد والدارسين قبل أن تخصص لها دراسات أكاديمية على مستوى المجلات النقدية العربية في المغرب العربي أو في المشرق العربي، كان هناك عدد من النقاد والأكايمين درسوا تجربة سيف الرحبي وأشاروا إلى العمق والثراء الموجود في هذه التجربة.
- نعم دكتور اتضح لي، أنا الحقيقة لم أقرأ كل دواوين الشاعر، قرأت فقط ديوان واحد وهو ديوان رأس المسافر، فوجدت أن القصائد تحتوي على الكثير من الضبابية، بعضها مبهم لا أجد له تفسير وبعضها غامض يحتوي على تفسير لكني لم أتوصل إليه، هذا بالإضافة إلى أني وأنا أقرأ قصائده أتذكر الفن التشكيلي وتحديدا المدرسة السريالية، فالصور الشعرية لقصائده تذكرني بهذا الفن، عندما يجمع الفنان عدة صور أو عدة أشكال في شكل واحد غير منطقي، أنا بصراحة لست من النوع الذي يحب أن يكون الخيال جامحا في الشعر لهذه الدرجة، لدرجة جمع أشياء غير منطقية، نعم الصورة الشعرية تقوم أساسا على الخيال والتشبيهات والاستعارات وهذا هو الذي يعطي فنية الشعر أساسا وهو الذي يجعلنا نتذوقه، لكن أن تصل لدرجة الخيال الجامح فإني أجدها غير مستصاغة قليلا!
الحقيقة أني هنا لست بصدد الدفاع عن هذا النمط من الشعر ولكنني بصدد التفسير لأن الباحث إذا إلتزم بمنهج علمي فليس هدفه الدفاع، وليس هدفه المهاجمة أو الإدانة، وإنما هدفه أن يدرس الظاهرة ويفحصها ويصفها كمنهج وكأسلوب علمي. أمامك نص لغوي وهذا النص اللغوي ينبغي أن تصفه وصفا علميا دقيقا تحاول من خلاله أن تستخرج الآليات الشعرية التي يعتمدها فتجربة قصيدة النثر، طبعا هي مثلت ردت فعل على نمط شعري سائد امتد قرونا طويلة، بمعنى أن القصيدة العربية منذ العصر الجاهلي إلى ستينيات القرن الماضي كانت تكتب بنفس الطريقة وهي القصيدة العمودية الموحدة القافية وهذه ليست مسألة مهمة كثيرا، لكن اللغة الشعرية لغة متشاملة، فلقد وصل الشعر العربي إلى مرحلة نستطيع أن نقول فيها أخذ يعيد إنتاج نفسه بمعنى دخلنا مرحلة التكرار والاجترار وأصبح الشاعر لا يجد مخرجا له من العباءة القديمة والعدة البلاغية القديمة الجاهزة؛ لأنه لدينا تاريخ طويل من الشعر فما كان في السابق إبداعا وفلتات خيال وشحطات رائعة أصبح الآن قوالب جاهزة جامدة موجودة سلفا، فيجد الشاعر نفسه محاصرا بهذه العدة اللغوية الجاهزة مسبقا، فأراد الشعراء أن يكسروا هذه القيود بحثا عن استعارات وتعابير ولغة شعرية محلقة، هذا استعدى أن ينظر إلى الأدوات اللغوية بنظرة مختلفة، بمعنى شروط التشبيه والاستعارة قديما أصبحت تختلف عن شكل التشبيه وشكل الاستعارة حديثا. ولو أنك قرأتي الدراسة ومررت بكل أبوابها ستجدين وقوفا على طبيعة بناء اللغة الشعرية الحديثة، كيف تبنى اللغة الشعرية الحديثة. فنجد مثلا من ضمن هذه العناصر أولا غياب الإطار المرجعي. في القصيدة التقليدية هناك إطار مرجعي تعود إليه القصيدة، هذا الإطار المرجعي يتمثل في المناسبة التي تذكر في بداية القصيدة، ويتمثل في ما نسميه بالقرائن لأنه لدينا أنواع من القرائن: القرينة الحالية، والقرينة اللفظية، وأيضا أن يكون المستعار منه والمستعار له بينهما تناسب وكذلك المشبه والمشبه به، فالقرينة اللفظية تمثل الإطار المرجعي الذي يضبط قراءة القصيدة. فأنت تمضي خطوة خطوة لتبني هذا الإطار المرجعي وتحاكم إليه الألفاظ لتحدد الدلالات والمعاني. لكن هذا الإطار المرجعي الذي يفسر القصيدة في قصيدة النثر نسف، وليس فقط في قصيدة النثر، هذا كان أيضا في قصيدة التفعيلة فقد تم تفجير هذا الإطار المرجعي. فالشاعر يكتب ولا يهمه أن يكون ما يكتبه مفهوما أو واضحا، لكن هناك صورة معينة تسيطر عليه فيكتبها، وأنا لا أمكر أن بعض الشعراء يتعمدون الغموض هذا موجود، ولا توجد ظاهر شعرية مثالية. بمعنى أن القصيدة الشعرية فيها نمادج جيدة ونماذج رديئة مثل القصيدة القديمة، بل حتى أن الشاعر نفسه قد تجد له قصائد جميلة ومحقلة في الخيال وقد تجد له قصائد سيئة لا إشكال، المهم هذه المحاولة لضخ دماء جديدة في اللغة الشعرية.
الآن كسر الإطار المرجعي يجعل مجال التفسير مفتوح، لا يمكن أن نضبط الاحتمالات التي يمكن أن نفسر بها نصا معينا، لكن أصبح الآن القارئ هو الذي يتخيل إطارا مرجعيا يعيد النص إليه ليفهمه ويتكشف عليه. فأنت مثلا إذا قرأت ديوان وتستوفيه كاملا ثم تعود إلى بداياته ستجد أن قراءتك من جديد الآن تختلف عن قراءتك الأولى، لأن مواصلتك للقراءة كانت تساهم في صنع هذا الإطار المرجعي، فعندما تعود تقرأ مرة أخرى تجد أن المعنى يتجه باتجاه آخر، وكلما صار مع القارئ خبرة بهذا الشاعر يستطيع أن يتخيل هذا الإطار المرجعي، ويفسر النص في ضوءه، الجميل فيه أنه فتح مجالا للخيال، بمعنى أنه أطلق الخيال للشخص أن يتخيل. وهذه الرغبة في إطلاق الخيال مفيدة يحبها البعض، ولا يحبها آخرون، يستصيغها الإنسان في أوقات، ولا يستسيغها في أوقات أخرى، ولكن هي بشكل عام تسهم في إثراء اللغة الشعرية. وقصيدة النثر كانت في بداياتها موغلة في الغموض بعد ذلك أخذت تسهل، الآن في هذا العصر سنقرأ نماذج لقصائد نثر أوضح حتى الشاعر نفسه قد تقرأ له مجموعة قديمة ومجموعة حديثة، ستجد أن المجموعة الحديثة قد تكون أسهل من المجموعات القديمة، لماذا؟ لأن التجربة دائما في بداياتها تكون متطرفة وفي نهاياتها تميل إلى أن تصبح معتدلة، بمعنى أن هذا النمط الشعري في بداياته يكون موغلا في الغموض، وموغلا في الخيال، يحقق بعض المكاسب ثم بعد ذلك يبدأ يعود إلى اللغة التقليدية فيقف في منطقة وسط. استفاد من الحديث ولكن تراجع عنه وأصبح أكثر قربا من القديم فنصل إلى مرحلة وسط، هذه المرحلة الوسط تمثل نقله في الشعر العربي. وهذا ما يسمى في الفلسفة بالديالكتيك أو الجدل الوجودي، والجدل الوجودي هو أن ننتقل من الشيء إلى نقيضه ثم نعود إلى صيغة وسط. وهذا في كل الظواهر الكونية كالاجتماعية والتاريخية والفنية والأدبية وغير ذلك. وسيف الرحبي مرتبط ارتباط وثيق بتجربته الشخصية فمن يكون على دراية بنمط حياته ينكشف له أفقه الشعري، هذا ما أزعمه وما أشعره عندما أقرأ قصائده. وشعراء آخرون لهم مفاتيح أخرى، فقصيدة النثر تعددت وتنوعت مفاتيحها، فكل شاعر له مفتاح يختلف عن الشاعر الآخر. أدونيس مثلا معه البعد الفلسفي، فقصيدته ليست مجرد صورة، فأدونيس مفاتيحه تنبع من التراث العربي مع البعد الفلسفي فالمفتاح الفلسفي يسهم في قراءة أدونيس. وهو مفيد في قراءة سيف الرحبي لكن بدرجة أقل، فسيف الرحبي أكثر ارتباطا بتجربته الوجودية، الحياتية اليومية التي يعيشها، فهو ممكن أحيانا أن يصف مشهدا في سوق، ممكن أن يصف مشهدا في غرفة، ممكن أن يتحدث عن منظر طبيعي، فهو مرتبط ارتباط وثيق بتجربته اليومية. أما آخرون فقصائدهم أقرب للتأمل مثل أدونيس، فهو لديه تأمل فكري فلسفي. والشعراء العمانيون عموما البعد الذاتي لتجربتهم اليومية اليومي المعيش حاضر بقوة في قصائدهم، أما مع شعراء آخرين فلا، تجد أن الموضوع ربما يكون أقل، وطبعا كما ذكرت لك بسبب غياب المرجع الواقعي لهذه التجارب الشعرية تجد أن كل شاعر يمثل تجربة خاصة، ويحتاج مفاتيح خاصة.
- ولكن كيف نستطيع أن نفسر القصيدة؟
هو لا يريدك أن تفسر، هو يريدك فقط أن تتخيل، وتكتفي بالتخيل، فإذا خرجت بصورة خيالية جيدة أهلا وسهلا، لم تتمكن لا بأس اقلب الصفحة وإقرأ غيرها، الفكرة أيضا لها بعد فلسفي، ولنوضح هذه المسألة. طبعا قصيدة النثر العربية هي امتداد لقصيدة النثر الأجنبية، كل أشكال التطور الشعري في العالم العربي هي أصلا انعكاسات لتيرات أدبية ونقدية وفلسفية هي أصلا موجودة في الحضارة الغربية. ما هي فكرة قصيدة النثر؟ المسألة متطورة منذ تطور الفلسفة أصلا، وفلسفة اللغة على وجة التحديد. فاللغة كان ينظر إليها قديما على أنها أداة توصيل، فمثلا إبن جني عندما عرف اللغة ماذا قال؟ قال أن اللغة عبارة عن أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، إذن اللغة وسيلة تعبير وتواصل. بعد ذلك حاول علماء اللغة والمناطقة والفلاسفة أن يضعوا ضوابط تضبط تفسير اللغة ولذلك نشأ لدينا مثلا في الحضارة العربية الإسلامية نشأ معنى علم أصول الفقة، وعلم أصول الفقة يقوم على تفسير النص الديني تفسرا علميا دقيقا. كان القدماء يتصورون أن النصوص اللغوية يمكن السيطرة عليها وتفسيها تفسيرا منضبطا، وهذه كانت نستطيع أن نقول قاعدة علمية تحكم طريقة الناس في التفكير وفي إنشاء المعارف والعلوم. في القرن التاسع عشر هذه الفكرة انكسرت، فلقد أصبح الناس لا يثقون باللغة، وأصبح الفلاسفة يقولون أن اللغة خداعة ومراوغة ومليئة بالثغرات، فأنت تتصور نفسك فهمت وأنت في الحقيقة لم تفهم. فنشأ توجه فكري فلسفي يتعامل مع اللغة على أنها مجال مفتوح للتأويل ولا يمكن إغلاقه، وهذا كان مع ما يسمى بالتفكيكية، دريدا والتفكيكيون -طبعا هم بنوا أيضا على أفكار فلسفية قبلهم- هم يرون أن النصوص اللغوية لا يمكن السيطرة عليها، ولذلك مثلا القرآن الكريم يحتوي على آلاف التفاسير، لماذا لم يتفق المسلمون على تفسير واحد للقرآن؟ ذلك لأن القرآن نص لغوي، والنص اللغوي دائما يصعب السيطرة على دلالاته، ولذلك قال علي بن أبي طالب أن القرآن حمال أوجه. الآن إذن في هذا العصر الحديث أصبحت الثقة في اللغة وأنها أداة توصيل مفقودة، هذه النزعة الفلسفية تجسدت أدبيا في النصوص التي لا يهم كاتبها أن تبحث عن معنى، بمعنى هو يقول لك ليس المهم أن تفهم المهم هو أن تتخيل وتشعر وتحلق، وليس المهم أن تفهم فكرة معينة، هذه الآلية في الكتابة نشأت عن هذا التطور في فهم اللغة أصلا. وهي فكرة قائم في فكرة إنفجار اللغة، وأنها لا تصلح كوسيلة للتواصل المأمون، وأن اللغة دائما ناقصة وقاصرة وفيها ثغرات. وبتالي لا ينبغي أن نهتم كثرا إذا كنا قد فهمنا المطلوب أو لم نفهم، بمعنى لا يهمني أن أفهم ماذا يقصد الشاعر، يهمني أن أنظر إلى هذا النص بماذا أخرج منه، طبعا هذا توجه فيه إلى حد ما فيه قدر من التطرف في التعامل مع اللغة. أنا أريد أن اشرح لك كيف نشأت هذه الطريقة في الكتابة فهذه الخلفية الفلسفية شجعت بعض الكتاب والأدباء أن يكتبوا كلاما غير مفهوم، وهذه الطريقة في الكتابة التي بدأت في الغرب أغرت الكتاب العرب أن يكتبوا مثلها؛ لأنهم لاحظوا أنها جميلة وتطلق الخيال، وتعطيك الحرية أن تكتب بدون ضوابط. وهذه الحرية تطور الخيال لكن ثمنها الغموض، وبتطور التجربة الشعرية سنصل إلى مرحلة وسطية نراعي الذوق العام والمعنى العام مع الجرأة على التجديد، وهذا يندرج ضمن التطور الثقافي للأمة ككل.
- لكن أتذكر مقولة أحد النقاد أن اللغة أساسا هدفها توصيل معنى!
نعم، ولذلك الفلاسفة في العصر الحديث فرقوا بين أنواع اللغة، فهناك الأسلوب العلمي وهناك الأسلوب الأدبي. فالأسلوب العلمي هدفه أن يوصل فكره، والأسلوب الأدبي هدفه أن يوصل شعور، فصار معنا هذه التفرقة بين الأساليب. ولذلك فأني إذا قرأت لفيلسوف أو عالم فأنا أبحث عن معنى وفكرة يريد أن يوصلها، أما إذا قرأت لشاعر لا يهمني كثيرا الفكرة التي يريد أن يعبر عنها، لأنني لا أنظر إلى رسالة معينة واضحة. طبعا إذا كان الشاعر يكتب القصيدة العمودية ويكتب بطريقة تقليدية ستقول لا بأس هو هذا منهجه سأبحث عن فكرة معه، لكن إذا كان الشاعر ذو توجه حديث إذن أنا سأبحث عن الشعور والخيال واللمحة، إذن هناك أشكال من التلقي تختلف بأنواع النصوص.
- لكن هذا ألا يأخذ اللغة أو الأدب إلى الفوضى أو اللاجدوى؟
لا بأس، لأنه كما ذكرت لك، كل تجربة تمر بمرحلة مخاض لتستقر بعد ذلك. فالفوضى لا بد منها، هناك فوضى في الشعر، هناك فوضى في النقد، هناك فوضى في العلم، الفوضى موجودة في كل الظواهر الإنسانية. فالفوضى إذا كانت تساهم في التجربة هي خطوة ضرورية للخلوص إلى شكل جديد من أنماط الكتابة. فلا بأس من الفوضى، نعم الفوضى موجودة، أنا أقر بالفوضى ولكن لا بأس هذه طبيعة الحياة، فالحياة كلها تكون فوضى ثم تستقر بعد ذلك، وهذا موجود في كل أشكال الحياة.
- جميل، فكرة جميلة أعجبتني، حسنا دكتور، أنت ما رأيك في نظرية الفن للفن، عندما لا يكتب الأديب لأغراض أخلاقية أو غير ذلك فقط للمتعة والفن.
طبعا هذا يعتمد على ثقافة الشخص، وعلى بناءه الفكري والفلسفي. بمعنى أن التوجهات الفكرية الموجودة في المجتمعات متعددة جدا، هناك مثلا أناس يؤمنون بالمادية في تفسير الحياة، هو يرى أن الحياة كلها قائمة على المبادئ المادية، بمعنى أنه يفسر الطبيعة تفسيرا ماديا ويفسر الدين تفسيرا ماديا، ويفسر الأخلاق تفسيرا ماديا. وتجد مثلا هناك من لديه التفسيرات الروحانية يعني يرتبط بالغيب ويرتبط بالرسائل والأديان السماوية، هذا له تفسير مختلف تماما للوجود. فالذي يفسر الحياة تفسيرا ماديا طبيعيا ما يطلبه من الادب يختلف عن الشخص الذي يفسر الحياة تفسيرا روحيا أخلاقيا، فأصحاب النزعات الدينية يشجعون فكرة أن الفن للأخلاق، وأصحاب النزعات التي لا ترتبط كثيرا بالأديان وتحاول أن تفهم الظاهرة الإبداعية في قوانينها الخاصة سيميلون لفكرة الفن للفن، فهذه المسائل مرتبطة بالموقف العقدي والفكري للإنسان. لكن حتى بعض المتدينين يميلون لفكرة الفن للفن مع إيمانهم بالأبعاد الأخلاقية والدينية، وستجد أحيانا ماديين ويؤمنون بفكرة الفن للإلتزام مثل الشيوعيين، فالماركسيون هم ماديون، لا يؤمنون بالله ولا يؤمنون بالدين ولكن هم يرون أن الأدب ينبغي أن يخدم غاية. في المقابل قد تجد شخصا متدينا ومع ذلك يرى أن الأدب ليس بالضرورة أن يخدم غاية دينية أو غاية أخلاقية ولكن غاية فنية. أنا مثلا شخصيا كموقف فكري لي من قضايا الأدب، أنا كشخص أعامل الفن بالفن، وأرى أن الفن للفن، وأن الفن ليس بالضرورة للأخلاق، وليس هو المعيار لتقييمه. مثلا أقرأ ديوان أبي مسلم البهلاني من أجمل الدواوين العمانية وأستمتع بقراءته كثيرا، لكنني عندما أعجب بهذا الديوان ليس للرسالة الدينية التي يحملها وإنما أعجب به بسبب العناصر والسمات الفنية الموجودة فيه، في المقابل قد أجد كاتبا كالعقاد يؤمن بفكرة الفن للفن، ومع ذلك لا أعجب بشعره، أجد أن هذا الشعر متكلف وفيه قدر من الصنعة التي لا أستسيغها، فهذه القضية متروكة للشخص ولأفكاره وقناعاته ولتطوره الفكري وذوقه، ولكن بشكل عام لدى غالبية المهتمين بالنقد الأدبي، النقاد يميلون أن الفن يحاكم بالمعايير الفنية ولا يحاكم بالمعايير الأخلاقية، وهذه الفكرة هي الأكثر شيوعا في أوساط النقاد.
- دكتور في خاتمك بحثك شدتني عبارة تقول: (إن المعرفة الخلقية والقيمية الحقيقة والكفيلة بإنقاذ البشرية على نحو ما يرى سيف هي تلك التي يوحي بها الفن ويومئ إليها الخيال والحدس وليس تلك القائمة على منهج العلم والمنطق). استوقفتني هذه العبارة ونرجوا منك التوضح.
هناك موقفان فلسفيان نستطيع أن نقول أنهما موجودان مع البشر، فهناك موقف يرى أننا إذا أردنا أن نصل إلى الحقيقة ينبغي أن نلتزم بالخطوات العقلانية المنطقية، أي بمنطق المقدمة تقود إلى النتيجة، هؤلاء يرون أن المعرفة الحقيقة هي تلك التي تنقدح من العقل ويخضعها العقل لأدوات الفحص والاختبار لتثبت النتيجة في النهاية. وهناك توجه فلسفي آخر يرى أن الحدس أهم من العقل في إدراك الحقيقة، وهذا قد تجده مع تيارات فكرية مثل المتصوفة ومثل التوجهات الفلسفية السريالية وغير ذلك، الآن هناك العقل وهناك الحدس، أيهما يقودنا إلى الطريق الصحيح، طبعا في هذا الزمن الذي نعيش فيه، العقل هو الذي يحتل المرتبة الأولى في نظرية العلم، فالعقل هو الأساس الذي يمكن أن نثق به لنبلغ الحقيقة. ولكن العقل نفسه لا يلغي دور الخيال ودور الحدس في في اكتشاف الحقيقة، مثلا لدينا النظرية النسبية لآينشتاين في البداية عندما بدأت كانت خيال وحدس، ثم هذا الخيال والحدس أثبته العلماء أنه صحيح. تقدم آينشتاين بأطروحة للدكتوراة رد عليه الأساتذة في الجامعة أن أطروحتك هذه أقرب للخيال منها إلى العلم، واعتذروا له لم يقبلوا الأطروحة في تلك الجامعة. ثم اتضح أن خيال آينشتاين كان أدق وأصوب في فهم الحقيقة من المعرفة الموروثة المنظمة، هذا النوع يميل إليه الشعراء، بمعنى أن الشعراء يميلون إلى المعرفة الحدسية وليس كل الشعراء طبعا، لكن قدر كبير من الشعراء. هو يرى أنه في موقف معين، ما الصح وما الخطأ هو ما يوحي إليه حدسه بأنه هو الصحيح وينطلق فيه، لا يُخضع الموضوع لتحليل ما الأسباب وما الكيفية وما النتائج، هو بمجرد أن يحدس حدسا غامضا أن هذا هو الصواب ينطلق ويفعله. الشاعر الذي يميل إلى يكسر قواعد اللغة المألوفة وأن يحلق في سماوات الخيال هو لا يقوم بهذه الخطوة ولا يجرأ على أن يكسر قداسة اللغة وأعرافها وأنماطها إلا لأنه يعكس أو يتبنى موقفا فكريا عميقا مفاده أنه ليس بالضرورة أن يكون الصواب والحق في الشيء الواضح المفهوم الذي نحاكمه بعقلنا، قد تكون الأشياء التي نحدسها حدسا وفيها قدر من الالتباس والغموض قد تكون هي الأصوب. ولذلك لأن هذا الموقف الفكري موجود معه تجد أنه جريء على اللغة، فالجرأة على اللغة هي أصلا تستند على موقف فكري، هذا الموقف الفكري مفاده أن الوضوح والأشياء المنطقية العقلانية ليست بالضرورة الصواب. هذه الفكرة أيضا تتجلى مع الشعراء في عبارات أخرى، يعني مثلا الجنون، ذلك الشاعر دائما يمجد الجنون، ويحط من قدر التعقل، إذن عندما يمجد الجنون والتوهان وكسر الأعراف فهذا يدل على أن لديه موقفا فكريا عميقا مفادة أن الحقيقة ليست في ما ترونه حقيقة، الحقيقة قد تكون في الأماكن المظلمة والأماكن غير الواضحة، فنحن نقول أن التجربة الشعرية لهذا الشاعر عندما نحللها على مستوى الصور نستطيع أن نستخلص منها مثل هذا المبدأ الفكري الضمني، والشاعر لا يصرح به ولكنه يستند إليه لا شعوريا في كتابته نصه الشعري.