الصحوة – شريفة التوبية
أنهيت قراءة رواية ” امرأة في النافذة” التي تحكي حكاية الطبيبة النفسية آنا فوكس، والتي ظلت محبوسة في بيتها لمعاناتها من رهاب الخروج أو الفضاءات الواسعة بعد فقدها لزوجها وابنتها في حادث سير، أنكَرت رحيلهما، فكانت تتحدث معهما غير مصدّقة إنهما رحلا، وقد بقيت طوال تلك الفترة خلف نافذة بيتها تراقب جيرانها وتلتقط الصور لهم، تتصاعد الأحداث في الرواية حتى يختلط الوهم بالحقيقة في ذهن القارىء، أثناء قراءتي لهذه الرواية استعدت حكاية واقعية حدثت معي..
أذكر ذات يوم أن امرأة أعرفها مات ابنها الشاب ذو الستة عشر عاماً في حادث مروري، لم ألتق الشاب يوماً ولكني عرفته من حديث أمه عنه. علمت عن موت ابنها كما علم غيري، ولا أدري ما الذي انتابني في تلك اللحظة، لم أبك الابن، ولكني بكيت الأم، ودخلت في حالة من الشعور المؤلم بالفقد معها. أعوام مضت على موت ذلك الابن ولكن صورة الأم ظلت مزروعة في مخيلتي، في قلبي، في تفكيري، وكلما مررت بالقرب من بيتها الواقع على الشارع، أبطىء من سرعة السيارة وأنظر إلى بيتها المغلقة نوافذه، أتخيّلها تبكي خلف ستارة النافذة. حاولت مراراً تجاهل هذه الصورة المتخيّلة لها في ذهني لكنها لا تغادرني، وينقبض قلبي مع كل مرور وأمضي. مرّت أعوام وظل شيء ما يشدني إلى ذلك البيت والمرأة المندسّة خلف النافذة، تبكي ويبكي فؤادي معها، وأقول لمن يكون معي في السيارة بألم وحسرة” في هذا البيت أم ثكلى، امرأة ما زالت تنوح، في هذا البيت فُقد“.
ظللت على ذلك الحال حتى التقيتها صدفة في مقهى، أركّز في ملامحها، إنها هي بذات تسريحة الشعر والمكياج الذي تضعه على وجهها، بنفس الألوان الزاهية، لم تكن تبكي، كانت تقهقه، تضحك بصوتٍ عالٍ ربما على نكتةٍ ألقتها إحدى الجالسات في الجلسة معها. جلستُ على طاولتي أنظر إليها بينما أنتظر فنجان قهوتي، هل يعقل أن تكون هي؟ كيف خرجت من خلف النافذة؟ كيف تركت دموعها وبكاءها خلف الستارة وتركتني معلقة طوال هذه الأعوام معها؟ هل استطاعت نسيانه؟ تذكّرت العبارة التي تقول “الحياة أبقى من الموت”، فمهما كان شعورنا بالفقد قويّاً وعظيماً لكن الحياة تستمر، الإنسان يقاوم ليعيش، وأن ظل ذلك الفراغ في القلب مفتوحاً لأي عاصفة، لكن هناك شخص نفقده ولا ننساه مهما بدونا أقوياء بعد رحيله. إنهم خالدون فينا، باقون ما بقينا، نتذكّرهم، نستعيدهم، نحدّثهم كما كانت تفعل آنا فوكس كلما ضاقت بنا الحياة ونحن ندفع بأنفسنا للخروج من مأزق البقاء في عنق الزجاجة.
يقال إن شعورنا بالمحبّة يكون عظيماً وكبيراً حينما نستحضر الفقد أو نتخيّل أننا سنفقد من نحبهم، ويقال إذا رغِبت في معرفة مقياس حبّك لشخص ما تخيّل فقده، وتخيّل حياتك من غير وجوده. إنه الفقد، ومن منا لم يجرّب الفقد يوماً ولم يكابده ولم يعانيه، من منا لم يشعر بتلك المرارة والفراغ والوحدة بعد رحيل عزيز عليه؟ إنها العاطفة التي تسلبنا كل أسباب القوة أو تمدنا بها، فلا نتخيل يوماً أن نعيش من غير وجود أحبتنا الذين أحبونا بما نحن عليه دون شرط أو قيد، وأحببناهم بذات الحب الذي زرعوه فينا، حيث لم نكن نتصور حياتنا من غير وجودهم، نشتاق لأعينهم التي نرى فيها صورنا أجمل ونرى الحياة بهم أجمل وأجمل، ونشتاق لأيديهم التي تبارك لمستها خطوتنا، وكلماتهم التي تعيد لنا الثقة في أنفسنا كلما أوشكت على النفاذ ونحن نواجه مصاعب الحياة. ترى كم فاقد في هذه اللحظة يجلس خلف النافذة؟!