الصحوة – إسحاق السعيدي
سوق الحرفيين بولاية صحار، الذي كان مكانًا لعبق حضارة العمانيين، ومرتعًا لحِرف مشغولاتهم التقليدية، غدا مكانًا مهجورًا غلفته الأتربة ونتثرت فيه الأوساخ، حتى فقد لوحته التي تُعرّف عنه بأنه سوق للحرف التقليدية العمانية!
لا شيء يشير إلى وجود حياة في السوق عند الوقوف أمامه، لكن رغبتنا في استكشاف ما يحدث في هذا المبنى الذي كان يعد معلما بارزًا في الولاية الساحلية أجبرتنا على المشي في ممراته المتسخة، وتأمل التحف الفنية المهجورة التي تملأ المكان، يا للحسافة! لماذا يترك كل هذا الإبداع هكذا؟ هل انقرض “شيابنا” من مبدعي هذه المشغولات اليدوية؟ أم أن الزمن جار على هذه الأعمال ولم يعد هناك من يهتم بها؟ أين الجهات المسؤولة عن رعاية تراث هذا الوطن الذي لا يقدر بثمن؟
ومع رؤية كل محل فارغ يتأسف الزائر على فرصة لإحياء التاريخ لم تستغل، ومع كل استراقة لمحل يحوي كنوزًا من الماضي أُغلق عليها يعتصر القلب ألمًا على جهود ضاعت وسط “مدنية” و “وتحضّر” الجيل الجديد من أبناء المدينة، ومع أن الأمل بدأ يخفت في إيجاد من يحيي عظمة الصناعة العُمانية، إلا أن السيارة الواقفة داخل السوق تدلل على وجود أحد يُجهل سبب وجوده في مكان مهجور حقا.
كانت تلك السيارة، وصوت المكيف الذي ملأ المكان ضجيجا، دافعا للدخول إلى أحد المحال التي تبدو مغلقة، لكن رغبة الاستكشاف كانت أكبر من الاكتفاء بمرور سريع على ذلك المحل، ويا للمفاجأة، مكان مليء بالمشغولات الخشبية من تحف ومجسمات ولوحات، وخلفها في الغرفة الزجاجية، أحدهم يعمل بشغف دون أن يدرك حركتنا، فكان تنبيهه لازما حتى يشعر بوجود أحد، جاء من الغرفة الخلفية مُرّحبا رغم التعب الظاهر على وجهه، ولعله أثر الصيام بعد يوم طويل شارفت فيه الشمس على الغروب.
“موضة المولات”
بدأ العم جمال بالتعريف عن نفسه وحرفته ومحله، لكنه لم يطل التقديم حتى بدأ بالشكوى من أحوال يعانيها بسبب ارتباطه بهذا العمل الذي لم يعد ذا قيمة في عصر (المولات) كما يسميه، ورغبة الناس في اقتناء (الماركات)، وابتعادهم عن المنتجات المحلية يدوية الصنع، التي يزعم أنها أعلى جودة وأكثر ندرة وتفردا من تلك القطع الاستهلاكية باهظة الثمن، وهو يُرجع السبب أولا إلى التوجه الحكومي قبل الأفراد، التي ما فتئت – أي الحكومة – في البحث عن مصادر الاستثمار والدخل السريعة، مع تجاهل تام للحرفيين الذين يعانون قلة الدعم والإقبال، من قبل الحكومة والأفراد.
تخبط حكومي
وعند سؤاله باستغراب عن سبب ظهور هذا السوق شاحبا وسط الأسواق الحديثة التي تحيطه، أجاب مستذكرا معاناته فيه: أن هناك تخبطا حكوميا في إدارة هذا السوق، فبعد أن كان تابعا لبلدية الولاية بدايةً، أدارته هيئة الصناعات الحرفية ثم وزارة السياحة، وفي الهيكلة الحكومية الأخيرة، أُرجع إلى البلدية مرة أخرى، ولم تبدأ إدارة البلدية في الولاية حتى الآن خطة الاعتناء بالسوق رغم مرور سنتين من تسلمها إدارته، وكانت جميع الإدارات السابقة قد فشلت بالنهوض به، وأن جميع محاولات إنعاشه باءت بالفشل، وهو يُرجع هذا إلى عدم وجود خطة دعم حقيقية للحرفيين بمشروع استراتيجي طويل المدى، فكل ما يحصل هو عبارة عن عشوائية في الأفكار وتخبط في التنظيم، فلا يعتبر أن حصول الحرفيين على نسبة تخفيض في إيجارات المحال شيئا كافيا، ولا حتى مبالغ الدعم الذي يحصلوا عليها بين فينة وأخرى شيئا حقيقيا يستحق الشكر، ما دامت الرؤية المستقبلية التي تحافظ على استدامة العمل الحرفي غائبة.
ثقافة متدنية وأخرى راقية
يشير العم جمال إلى عدم إقبال العمانيين على شراء مشغولاته الخشبية بجهل عنها أحيانا، وعدم تقدير لها أحيانا كثيرا، فهو يقارن بين (استغلاء) العمانيين لهذه القطع الخشبية النادرة التي يصنعها حسب الطلب، وبين (تقديرها) من قبل الأجانب الذين يشتروها دون مفاوضة في سعرها، لأنهم يعلمون حقا قيمة ما سيمتلكوه من تحف لن تجد لها مثيل في العالم أجمع، وفي النهاية سنجد أن الذي يرفض شراء ما يصنعه من قطع بدعوى غلاءها من محله البسيط، مستعد لدفع أكثر من قيمتها لو توفرت نفس القطعة في مكان راقِ يحتوي على (براندات)، وهذا ما يحدث فعلا عندما تشتري منه الجهات الحكومية الداعمة بعضا من أعماله وتعرضها في مول دار الأوبرا السلطانية، نجد أن عليها إقبالا كبيرا رغم الزيادة في سعرها بنسبة 30% عن محله المتواضع في سوق الحرفيين بصحار!
يؤكد العم جمال أنه يبذل كثير من وقته وجهده على ممارسة المهنة التي يحبها منذ زمن، فقد أورثها لابنه زكريا الذي يعاونه العمل، محاولا تطوير مهاراته وقدراته باستمرار، وأنه يحضر إلى معمله في فترتين صباحية وأخرى مسائية، على عكس المحال الأخرى في السوق التي تفتح في فترة واحدة، كذلك قد وضع قسما خاص في المحل لاستقدام الرسامين الذي يرسمون لوحاتهم الفنية على براويز خشبية من صنعه، في إطار تنويعه للأعمال المعروضة لديه، متمنيا أن يحصل على الدعم الحقيقي الذي طالما حلِم به من الجهات الحكومية المسؤولة.