الصحوة- بلقيس الهنداسية
نشأ في أسرةٍ ميسورة الحال، توفي والده وهو طفل رضيع، فأرغمته الحياة على أن يتأقلم مع ظروفها ويتحمل أعباء عائلته، كان يحلم أن يصبح ضابطاً مسؤولٌ عن أمن مدينته، لكنه لم يكن مدركاً آنذاك بأنه سيكون أحد الأشخاص الذين يهددون أمن المدينة؛ فالكثير من الأسباب جعلت سيف يجر أذياله شيئاً فشيئاً نحو طرق الممنوعات وتحديدا (المخدرات).
قصة سيف وخوضه في طريق المخدرات هي قصة واحدة من أصل آلاف القصص التي تفشت في المجتمع ، كان مربكا شيئا قليلا وكأن لقائي معه أعاده لذكريات سيئة حاول جاهدا أن ينساها ، فأخذ نفسا عميقا فأجابني بعدما سألته عن وجهة نظره بالفرق بين المتعاطي والمدمن فقال : من خلال خوضي في هذا الطريق وبما مررت به من تجربة ، فالمتعاطي هو من يجرب المادة المخدرة بأي نوع من أنواعها لعدة مرات متفاوتة ، أما المدمن هو الذي لا يستطيع أن يترك هذه المادة ويعمل المستحيل للإتيان بها تحت أي ظرف ، ويحتاج أيضا لمراكز طبية للتخلص منها وكذلك فترة زمنية طويلة، بعكس المتعاطي فبإمكانه أن يتخلص من المخدرات ليس بالضرورة عن طريق مركز طبي متخصص. فسألته عن تجربته هل وصلت للإدمان أم التعاطي فقط. فأجاب: أنا كنت متعاطيا ولم أصل لمرحلة الإدمان، بعدها أكمل حديثه قائلا: كانت تمر أيام عديدة لم أكن أتعاطى فيها. فمن خلال إجابته انتابني فضول لأعرف ما هو السبب، فأجابني: إن هذه المادة المخدرة كانت باهظة الثمن كنت لا أمتلك المال الكافي لشرائها، فحالتنا الاجتماعية كانت تميل للفقر نوعا ما، وكنت مسؤول عن إعالة عائلتي بعد وفاة والدي.
*أحلام وطموحات هُدِمت جراء التعاطي.
فوجهت له سؤال آخر كان يتبادر في ذهني ألا وهو الدافع الذي جره إلى طريق المخدرات، فأطال بنظره إلى الأسفل وكأن علامات الندم تجتاح ملامحه ، فسؤالي له أعاده لأيام مشؤومة لربما سيف الآن يعض أصابعه ندما عليها ،فأجابني بعد صمت: هناك أسباب عديدة جعلتني أن أصل لهذا الطريق المظلم فالفقر والحالة الاجتماعية السيئة كانا يجرّاني لطرق ممنوعة ، فمن صغري اضطررت للعمل الشاق لأجني بعض المال ، فقد كنت أتعرض للضغط النفسي من قبل عائلتي وبعض الإحراجات والتعليقات من سكان قريتي ، وعندما وصلت للمرحلة المتوسطة قمت بمصاحبة رفقاء السوء الذين كان لهم دور أساسي بدخولي هذا الطريق. ولا أنسى السبب الرئيسي الذي جرني بسهولة لهذا الطريق المظلم، ألا وهو (قلة الوازع الديني) أي كنت بعيدا كل البعد عن ربي، فقد أتبعت هوى نفسي ولم أكن أميز طريق الصواب من الخطأ.
كانت إجابته مؤثرة، وملامحه تعتصر ندما وحزنا، فمن الصعب أن يمر الإنسان بتجربة سيئة قد تجبره بأن يخسر الكثير، فكانت هناك أسئلة كثيرة مازالت تتصارع بذهني وكنت أتوق لسماع إجابتها، يا ترى كيف كانت بداية دخول سيف طريق المخدرات؟ فأجابني قائلاً: بدأت بتدخين السجائر ثم انتقلت للشيشة وشرب الخمور وبعدها بالأفضل (القات) إلى أن توصلت للحشيش.
ثم سألته عن مدة تعاطيه فقال بأنه استمر بالتعاطي لمدة ثلاث سنوات ونصف. فاندهشت حقا من إجابته فسنوات عديدة تذهب من عمر الإنسان بلا فائدة هي ليست بالشيء القليل، فكل يوم يمر على الإنسان هو ينقص من عمره ومن سعيه لبناء مستقبله، فأطلت بنظري إليه ثم قلت: ماهي الفرص التي أهدرها سيف وهو منشغلا متخبطا في دهاليز وطرق المخدرات؟ فأجاب بيأس: هناك فرص كثيرة جدا أضعتها، فقد تدنى مستواي الدراسي مما جعلني أرسب وأترك الدراسة، والآن أتحسر بشدة عندما أرى من هم بعمري قد أصبحوا في مراكز مرموقة، فمنهم العسكري والمهندس والدكتور ورجل الأعمال، نعم كنت شخصا يعيش بلا طموح، فقط أهلوس بالمخدرات؛ لذا أضعت فرص العمل والاستقرار المعيشي وجميع أحلام الطفولة عندما كنت أحلم أن أصبح ضابطاً عسكريا. فقاطعته بانفعال قائلة: العالم بأكمله يمتلك الوعي الكافي إيزاء هذه القضية، فلم تكن لديك خلفية عن المآسي والقصص جرآء التعاطي؟ فأجابني: نعم، أنا لا أنكر أنني كنت أعرف الكثير عن قصص المخدرات المأساوية، لكن الفضول والطيش وحب التجربة من الأشياء التي كانت تشغل عقلي آنذاك
*خيبات أمل توالت بعد معرفة الحقيقة
بعدها قلت له: من خلال سياق الحديث ادركتُ بأنك نشأت في مجتمع محافظ، فماهي كانت ردة فعل المجتمع لك؟ وماهي ردة فعل عائلتك بعد معرفتهم بأنك شخص متعاطي؟ فساد الصمت في المكان، وكأن سيف يريد مهرباً من الإجابة، حيث سؤالي أعاد له مواقف مؤثرة لا يريد أن يتذكرها. فبعد وهلة من الزمن أجاب والحزن يسيطر على ملامحه: لم أرى أمي قط بذلك الحال المأساوي فقد خابت كل آمالها، وكانت تضرب برأسها وعلامات الحسرة والبؤس تغطي ملامحها، وكانت غمام الحزن والكآبة تغطي على منزلنا، وفي المجتمع كنت شخص منبوذ وسمعتي سيئة ويتجنب الجميع الجلوس معي والمرور بجانبي خوفاً مني. كان يصف سيف المواقف التي مر بها وكأنها حدثت له منذ ساعات، فمن الواضح أن ردة فعل والدته ومجتمعه جعلته يصاب بألم نفسي شديد، وهذا فعلاً ما أكده لي عندما سألته عن سبب تخلصه من المخدرات ورجوعه إلى طريق الصواب، حيث قال: أن والدته هي السبب الرئيسي الذي جعله يتخلص من قيود هذا الطريق المظلم، وكذلك ردة فعل مجتمعه أثرت عليه لكي يحسّن من وضعه ويثبت لهم أنه شخص منتج ويستطيع أن يخدم نفسه ومجتمعه وعائلته؛ لذا أرغم نفسه على أن يخفف من تناول المادة المخدرة بعد جهد وضغط شديد ، فكان يعاني من ألم شديد في الرأس وذبول بالجسم ، وبعد اصرار تمكن من معالجة نفسه والتخلص من هذه المأساة .