الصحوة – د. معمَّر بن علي التوبي
نُعيدُ ذاكرتنا إلى ماضٍ قديم، ونحاول أنْ نرى حركة التاريخ وأحداثه ونقرأها عبر لحظاتها الزمكانية، إلّا أنّ حركةَ التاريخِ لم تعدْ سوى مجموعة أحداث نقرأها بواسطة ما وصلنا من وثائق أو مخطوطات أو ما سُطّر في الأوراق؛ لنطلق عليها أحداثًا تاريخية لها زمنها الخاص، وحينها كانت هذه الأحداث التاريخية في -أَوْج حالاتها- مجموعة انتقاءات جزئية لا يمكن لها أنْ تُشكّلَ صورة كلّية مكتملة للحركة التاريخية الأصلية، وإنّما هي بواقعها الحالي انعكاس غير كلّي وغير دقيق لمجريات ماضية فَقَدَتْ كثيرًا من جزئياتها، وقراءتُنا لها لا تتجاوز نطاق الوعي الحاضر، حيث تنطلق الأحكام والتأويلات بواسطة أدواتنا المعرفية وشروطها الحالية دون مراعاة جادة للظرفية الزمانية الخاصة بالحدث أو الحقبة التاريخية.
الظاهرة العامّة التي عن طريقها نقرأ التاريخ تفتقد -في غالبها- لشروط العدالة والأمانة المعرفية، فنحن نحاول أنْ نميطَ اللثامَ عن حقبة زمنية معينة، ونقرأ أحداثها بأسلوب الناقد، بل ونحاكم التاريخ بجميع عناصره البشرية والمادية، ونُنزل عليه أحكامنا المبنية على قواعدنا الحالية، ونغفل عن حقيقة مهمة هي أنّ ما نشاهده هو مجموعة مجزَّأة من الأحداث؛ إمّا مُنتقاة أو مُقتضبة وجزئية أو مفقودة من السجّل التاريخي، ولهذا لا يمكن أنْ ندّعي معرفة مطلقة وكاملة بأي حقبة تاريخية ما؛ كون جلّ أحكامنا هي مجرد عملية دغمائية لا تملك حقًا مطلقًا في تبنّي أي محاكمة لا تخص زماننا، حتى وإنْ سلّمنا بوجود التاريخ الأصلي حسب وصف هيجل الذي تُكتب فيه أحداث التاريخ في زمانها الأصلي إلّا أنّ فهمنا لهذه الأحداث لن يكونَ سوى حكمٍ كلّي ناقص يفتقر لجزئيات دقيقة لا نضمن وجودها، وحينها تكون قراءتنا للحركة التاريخية ناقصة لا يمكن اعتمادها نتيجةً كلّية. فمثلما تنص الفلسفة الوجودية أنّ الوجودَ يسبق الماهية1، وأّنّ الماهية نتيجة للوجود وحركته الزمانية، فهذا التفسير ينعكس أيضا على وجودية التاريخ (بصفته صورة كلّية) وأنّ فهمَنا لماهيته لا يمكن تصورها بشكل دقيق واضح إلا بتحديد كل جزئياتها الوجودية الخاصة بالمجريات والأحداث التاريخية.
لا أحاول بهذه الاستنتاجات أنْ ألغي الوجودَ التاريخي وحركته، ولا أحاول أنْ أثبتَ خطأ شاملًا لآلية فهمنا للتاريخ، ولكنها مبرّرات منطقية تدعونا إلى مراجعة منهجيتنا في قراءة التاريخ الذي لا أجده إلّا حالة وعي حاضرة لا يمكن تعميمها بشكل مطلق للظاهرة الماضية (التاريخية)، وحينها تصبح قراءتنا في أصلها قراءة نسبية تفتقد شروط المحاكمة العادلة؛ كون التاريخ أشبه ما يكون بكائن حيّ؛ إلّا أنَّ كلَ ما نراه فيه هو مجرد صورة عامّة فاقدة لوعيها الزمكاني الأصلي، وعليه لا سبيلَ لوجود وعي مطلق للتاريخ. هنا لا أحاول أنْ أطبّقَ منهجية هيجل في فهم فلسفة التاريخ وحركته؛ لأنّني لا أحاول أنْ أرسمَ حركةً للتاريخ من خلال قراءتي للصور العامّة لأحداث التاريخ سواء المتمثلة في الحضارات أو الأفراد، ولكنني أحاول التفكير في أساليب قراءتنا للتاريخ وتغيير النظرة المتشددة القاسية سواء من ناحية أحكامنا المطلقة أو النظرة السلبية التي ننظر بها إلى التاريخ وكأننا أمام كائن حيّ يعيش زماننا، ونسينا أننا لا نملك إلّا الصورةَ العامّة من هذا الكائن المنصرم (بما فيه من أفراد وأحداث وحركة زمانية). تقلباتنا في قبول التاريخ ورفضه تعبّر -في أغلب حالتها- عن حالة خاصة سواء كانت فردية أم جمعية، ولا يمكن لها أنْ تعبّرَ عن حقيقة صميمة تخص التاريخ؛ وحينها من الواجب أنْ نعيدَ أسلوب قراءتنا للتاريخ دون الغلّو والتعصب الذي ينعكس سلبًا -في غالبه- في واقعنا الحاضر من خلال القضايا والممارسات الخاصة منها والعامّة، مثل نظرتنا لقيمنا المتوارثة -السلبية منها- وتعاملنا مع الآخر -خصوصًا المختلف عنا-، وقراءتنا لا ينبغي أنْ تتجاوزَ الدراسة العامّة، مع محاولتنا للبحث عن كل الجزئيات المفقودة لتحقيق صورة أكثر دقة وواقعية للتاريخ، علّها تُخرِج لنا رؤية -نسبية في طبيعتها- تاريخية تصحح من حركتنا الحاضرة؛ لتحقيق حركة تاريخية واعية أفضل.