الصحوة – علي بن محمد الحامدي
قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13.
هكذا هي إرادة الله من خلقه لنا معشر البشر ومن خلق الكون من حولنا ..قوى مبثوثة تحيط بنا ..ويريد الله منا أن نكتشفها وأن نسخرها في أداء رسالتنا في هذه الحياة .هذه القوى المسخرة لخدمتنا لا يتأتى تسخيرها بدعاء الكسالى ولا بعبادة الخاملين.. كما لا يتأتى تسخيرها بدعوى الإيمان واليقين ولا بدعوى الكرامة للمتواكلين.. إن هذه القوى لا يمكن تحصيلها بغير السنة الإلهية التي تقضي بإعمال العقل والفكر والتشمير عن ساعد الجد من أجل الظفر بها والحصول عليها . فليس من سنة الله في تسخير هذه القوى أن نعتمد على قول القائل:.. أنتم تخرجون النقود من الجيب وأنا أخرجها من الغيب أو قول آخر:سيأتي المسيح المخلص أو المهدي المنتظر الذي سيقيم شرع الله وحكمه وأمره في الأرض وسيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا.
لقد عانت شعوب الأرض من غير المسلمين ردحا من الزمن من دعوى تسخير قوى الكون بقوى غيبية توصل الإنسان إلى تحقيق مآربه دون تدخل منه. هذه الدعوى ما جاءت أديانها الا لتأصلها فيها عقيدة راسخة لا تقبل التغيير وإيمان لازم لا يقبل التبديل. فما الإنسان بالنسبة لها الا ريشة في مهب الريح ليس له أية فاعلية أو تأثير في مجريات الحياة وأحداثها .هذه الدعوى ظلت قائمة لديها ومهيمنة على تفكيرها إلا أنها لم تجد لها نفعا ولم تزدها إلا تعاسة وشقاء دائمين. فما كان منها بعد طول معاناة إلا أن نبذتها وتحررت من أساطيرها وخرافاتها وألقت بها بعيدا عن مسار حياتها. وبدأت تسعى جادة نحو تسخير قوى الكون من حولها وفق السنة الإلهية :{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }الملك15. فسلكت سبيل الاكتشاف والبحث والتنقيب حتى بلغت ما بلغت إليه وان كانت قد أخفقت في الجانب الأخر حيث أنها لم تتعد برؤيتها خارج نطاق ما حولها فكفرت بأنعم الله وكان الأحرى بها أن تؤمن. فجعلت ما وصلت إليه عن طريق الاكتشاف سبيلا إلى مادية عمياء بغيضة لا تؤمن إلا بالمحسوس المشاهد ,مما أغرقها في تيه من الرجعية والخواء الإنساني أدى إلى تدمير الإنسان لنفسه بما وصل إليه. ولا أدل على ذلك من حالة الإنسانية اليوم وما تعاني منه من مشكلات لا تزداد مع الأيام إلا تعقيدا.
إن أمتنا اليوم تعاني من أزمة سؤ فهم لأمر ربها لها في قرآنه حين قالها وللإنسانية جمعاء: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13. فظنت أنها بدعوى كونها أمة مسلمة ,كتابها القرآن ونبيها محمد عليه السلام ودينها الإسلام ,أنها بذلك فقط سيسخر لها الوجود بأسره وسيمكن لها في الأرض وستكون قيادة العالم من حولها تحت تصرفها دون أن تبذل جهدا وفق السنة الإلهية ودون أن تقدم شيئا في ميدان العلم والمعرفة . وأنها ستنال كرامة الله بخرق سنن العادة من أجلها رغم أنها صباح مساء تقرأ قول الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }التوبة 105 وقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ..الآية }الأنفال60.
إن حادث الهجرة بالذات أعتبره بحق خير دعوة تحقق عمليا الأخذ بالسنة الإلهية في تحقيق المطلوب ونيل المرغوب . فالنبي عليه السلام بعد أن ضاقت برسالته مكة وما حولها وبعد أن وجد النصير والمعين في أؤلئك النفر اليثربيين الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون به أنفسهم وأهليهم وأموالهم, وبعد أن أذن الله تعالى له بأن يهاجر إليهم فقد اطمأن على هجرة أصحابه كلهم ولم يبق منهم غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
بعد كل هذا قرر عليه السلام الهجرة إلى المدينة بصحبة أبي بكر رضي الله عنه.. فما الذي فعله حتى يحقق النجاح الكامل لهذه الهجرة دون أن يصاب هو وصاحبه بأي أذى من قبل المتربصين به والمتآمرين ضده.
لقد وضع عليه الصلاة والسلام حين اتخذ قرار الهجرة بعد أن أذن الله له بذلك وبمعاونة صاحبه وخليله أبي بكر الصديق رضي الله عنه خطة واضحة المعالم للإفلات من قبضة قريش التي عقدت العزم على قتله والتخلص منه ثم سعى إلى تنفيذ تلك الخطة بإحكام وبكل تفاصيلها وأجزائها فكانت الخطة كالتالي:
- الإفصاح عن قرار هجرته وبشكل سري لصاحبه ورفيقه أبي بكر رضي الله عنه حين قدم إلى منزله في غير الوقت الذي اعتاد زيارته فيها ثم تشديده عليه على كتمان هذا الأمر.
- تهيئة أبي بكر لراحلتين تقلهما في سفر الهجرة إلى المدينة وبرفقة دليل (عبدا لله بن أريقط) يعرف مسالك الطرق التي لا عهد لقريش بها.
- تحديد موقع الاختباء (غار ثور) بعد خروجهما من مكة مباشرة إلى حين أن تهدأ ثائرة الطلب عليهما. هذا الغار الذي يقع في الجبال الجنوبية من مكة رغم أن المدينة (وجهته في هجرته هذه) تقع جهة الشمال من مكه وذلك إمعانا في التمويه على قريش لعلمه أنها لن تهدأ عن البحث عنه مهما كلفها الأمر.
- تكليف أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بتزويدهما بما يحتاجان إليه من طعام وشراب ليلا طيلة فترة الاختباء في الغار.
- تكليف عبدا لله بن أبي بكر رضي الله عنه بنقل أخبار قريش ليلا إليهما وذلك لمعرفة حركة العدو وسيره واتجاهه.
- تكليف عامر بن فهيرة رضي الله عنه برعي الأغنام نهارا حتى يعفى على آثار أقدام عبدا لله وأخته أسماء أثناء أدائهما لمهمتيهما فلا تشك قريش في الأمر.
- تكليف علي كرم الله وجهه ورضي عنه بالنوم في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأن يلتحف ببردته حتى يموه على المحاصرين للمنزل بأنه عليه السلام لا زال في فراشه فيؤخر بحثهم عنه إلى حين إتمام خروجه وصاحبه من مكة ووصولهما إلى غار ثور.
- اختيار طريق آخر للوصول إلى المدينة غير الطريق المعتاد والذي لا يعرفه إلا الخبراء بطرق الصحراء ولذلك أستأجر لهذه المهمة الصعبة عبدا لله بن أريقط وكان مشركا ليكون دليلهما في هذا الرحلة.
نعم .. لقد كانت خطة النبي عليه السلام في مواجهة تحدي قريش وإصرارها على قتله خطة مدروسة بإحكام, محددة لأهدافها وغاياتها ومحددة لأدوار منفذيها ومحددة كذلك لإطارها الزمني بمكوثهما في غار ثور ثلاثة أيام ثم الانطلاقة بعد ذلك إلى المدينة. هذا وقد تم تحقيق الهدف المنشود بنجاح منقطع النظير.
وتأتي هذه الخطة النبوية في مقابل خطة أخرى أقرتها قريش بدار الندوة بعد مداولات عديدة وبعد الأخذ والرد في عدة أطروحات وضعت لكيفية الخلاص من محمد ودعوته ..هذه الأطروحات القريشية ذكرها المولى سبحانه بنصها في القرآن في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }الأنفال30. ثم أستقر رأي قريش بعد ذلك على اختيار فتى قويا من كل قبيلة منها على أن يقوم جمع الفتيان بعد ذلك بمحاصرة بيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ما خرج مهاجرا ينقضون عليه فيقتلوه. وبذلك لا تستطيع بنو هاشم (أسرة النبي عليه السلام ) محاربة قريش بأسرها فترضى عند ذلك بالدية.
لقد كان هناك تخطيط قرشي جماعي يقابله تخطيط نبوي فردي وإمكانيات مادية وبشرية لدى قريش تفوق بمئات المرات تلك التي لدى النبي صلى الله عليه وسلم. لكن رغم ذلك كله نجح عليه السلام في الإفلات من قبضة قريش والوصول إلى المدينة في الوقت المحدد ووفق الخطة المرسومة. وأما قريش فقد أصيبت بحالة من الارتباك والذعر شديدين حين علمت بخروجه من بيته من بين المحاصرين له إذ لم تكن قد أعدت ما يمكن إن تفعله في حالة إفلاته من حصارهم هذا . فما كان منها إلا أن جن جنونها وأخذت تتخبط خبط عشواء دون أن تصل إلى شيء فقد حقق المصطفى عليه السلام مراده ووصل إلى أتباعه في المدينة سالما.
إن النصر الذي حققه المصطفى عليه السلام في هذه المواجهة الفردية ضد قريش بأسرها ببأسها وقوتها وعنفها وهو أعزل من كل سلاح ومجرد من كل نصير لأمر يستحق التأمل والتدبر ولذلك دعانا الحق تبارك وتعالى إلى ذلك حين قال مخاطبا من تخلف عن نصرته صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك :{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة40.
إن نسبة النصر الذي حققه المصطفى عليه السلام في حادث الهجرة إلى الله عز وجل كما جاء في هذه الآية الكريمة إنما هو في حقيقته جهد النبي عليه السلام وبذله في إحكام تصميم الخطة التي مضى عليها وذلك بدراسة الواقع القرشي وما لديه من خطط واستعدادات وما ينوي القيام به ضده ودراسة الإمكانيات المتوفرة لديه سواء كانت مادية أم بشرية ثم دراسة الاحتمالات الواردة أثناء تنفيذ الخطة وما يمكن القيام به ساعة إذ ثم توزيع الأدوار على المنفذين وأخيرا السعي إلى تنفيذ الخطة بكل دقة ودون إخلال بأية جزئية فيها .هذا الجهد الذي بذله المصطفى عليه السلام إنما هو في حقيقته ومن خلال دراسة أحداث الهجرة كما جاءت به كتب الحديث والسير لم يكن إلا جهدا بشريا لا يتجاوز ما لدى البشر من قدرات وإمكانات. فالنصر هنا لم يكن بمثابة الأمر الخارق للعادة الذي لا يتأتى لغيره عليه السلام فلم يكن هناك من معجزات جرى حدوثها وصح الخبر عنها في هذه الهجرة أدت إلى إنقاذ المصطفى عليه السلام وصاحبه ممن يطاردوهما وأنه لولا تلك المعجزات لم يكن ليتحقق النصر . يقول الإمام محمد رشيد رضا في كتابه تفسير المنار:”وقد ورد في كتب الحديث والسير أخبارا وآثارا كثيرة في قصة الهجرة ودخول الغار فيها كرامات وخوارق يتساهلون بقبول مثلها في المناقب وان لم تصح بطرق متصلة يحتج بمثلها في الأحكام العملية ولا في المسائل الاعتيادية بالأولى” .وهنا قد يقول قائل: إذا كان الأمر كذلك فلماذا ينسب المولى سبحانه هذا النصر إليه بقوله إلا تنصروه فقد نصره الله ثم يذكر خروجهما من مكة فردين وحيدين(إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ) ثم يذكر أشد المواقف في هذا الحدث حين وصل المشركون إلى باب الغار (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) ويذكر بعد ذلك إنزال السكينة عليه وتأييده بجنود غير مرئيين (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا )؟. والجواب على ذلك أن ما حققه المصطفى عليه السلام من نصر في هذا الحدث إنما يقع في دائرة إرادة الله ومشيئته الكلية إذ لا يتحرك من متحرك ولا يسكن من ساكن في هذا الوجود إلا بأمره سبحانه هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه عليه السلام عمل بمقتضى إرادة الله وأمره له إذ أنه سبحانه هو من أذن له بالهجرة وهو الذي سخر له كل الأسباب التي هيئت له النصر وأعانته على تحقيقه وهو في ذات الوقت يعمل بمقتضى أمر الله له في تسخير هذه الأسباب لتحقيق ما يرنو إليه ولهذا تمت نسبة النصر إلى فاعلها الحقيقي وهو الله عز وجل. إننا نقرأ قول الله تعالى لنبيه: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى }الأنفال17رغم أن من قام بالرمي هو النبي عليه الصلاة والسلام لكن نسبتها إلى الله عز وجل من قبيل ما ذكرنا آنفا . وأما التأييد بالجنود الغير مرئيين فمعناه أن كل سبب من الأسباب التي أعانت على تحقيق هذا النصر بشكل مباشر أو غير مباشر فهي من جند الله سواء كانت مادية أم معنوية . يقول الشيخ الشعراوي في تفسيره موضحا معنى تلك الجنود:”وأول الجنود غير المرئية هو أنه لم يخطر على بال القوم ولا فكرهم أن ينظروا في الغار, مع أن آثار الأقدام انتهت إليه. لكن الله طمس على قلوبهم وصرفهم عن هذه الفكرة بالذات, ولم تخطر على بالهم”. ولا يظنن أحد أننا بما ذكرنا ننفي وجود معية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في هجرته هذه ..لا بل هي معية متحققة بتسخير كل الأسباب التي حققت النصر ومتحققة كذلك بتسديده صلى الله عليه وسلم للأخذ بها دون غيرها. وأما أن تعني هذه المعية تأييده بخوارق ومعجزات لولاها لما تحقق النصر فهذا ما نرفضه وننفيه في هذا الحادث بالذات.
إن هذه الحقيقة التي نطرحها من خلال تدبرنا لمضمون هذه الآية الكريمة مع مطابقة ذلك المضمون على تفاصيل الأحداث في قضية الهجرة إنما يؤكد لنا المعنى الحقيقي لاقتضاء السنة الإلهية في كيفية التعامل مع القوى المسخرة لنا في هذا الوجود. وأن هذا التسخير لا يتم بغير بذل الأسباب الموصلة إلى ذلك . فالنبي عليه السلام وهو أفضل الخلق ورسول الحق وقد قال له ربه : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }المائدة67. فوعده بعصمته من الناس فلا يصلون إليه بالقتل وأنه منصور على كل حال.. إلا أنه عليه السلام لم يكن ذلك كله ليعني له بحال من الأحوال الارتكان إلى خوارق العادات التي لا دخل له في تحقيقها أو الاعتماد على تدخل القدرة الإلهية المباشر من أجل حمايته ممن يريدون به شرا . بل كان يعني له الأخذ الكامل بكل الأسباب المتاحة والإمكانيات المتوفرة لديه لتبليغ رسالته وتحقيق النصر على أعدائه ثم الرضى والتسليم بعد ذلك لقدر الله وأمره فيه. وهذا ما يتجلى بوضوح في حادث الهجرة بالذات كما أشرنا إليه, إذ ليس فيما ما جرى من حدث في هجرته عليه السلام ما يشير إلى حدوث خوارق أو معجزات أدت إلى نجاته من قبضة قريش ومكنته وصاحبه من الوصول إلى المدينة سالمين, بل كل ما حدث كان بتخطيط مسبق منه وبجهد تكاتفت فيه أياد أمينة أوعز لها عليه السلام بمهمات جسام فأدتها خير أداء وبتفان وإخلاص كبيرين.
هذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأحداث ومجرياتها ينفذ فيها أمر الله له ببذل الوسع واستفراغ الجهد لتحقيق رسالته وتبليغها للناس وليس حادث الهجرة فقط ما يدل على ذلك بل سيرته كلها عليه السلام تؤكد هذا المعنى وأما حال الحالمون دوما بالخوارق والمعجزات والمترقبون للتدخل المباشر للقدرة الإلهية من أجل تمكين الأمة في الأرض وتحقيق النصر على أعدائها فلا يرون ألا أن بعض الخوارق قد حدثت بالفعل ضمن سلسلة أحداث الهجرة وأن هذه الخوارق هي السبب الرئيس وراء تحقيق النصر للنبي عليه السلام في هذه المواجهة ولولاها لكانت الكارثة التي تعني قتل النبي صلى الله عليه وسلم على يد قريش. فمن تلك الخوارق التي راجت كثيرا في سوق الحالمين بها أن حمامتين باضتا على باب الغار وان العنكبوت لتوها نسجت نسيجها على فم الغار كله وأن تلك الخارقة هي التي منعت قريشا لدى وصولها إلى باب الغار من اقتحامه وإلقاء القبض على من فيه .
وتذكر رواية أخرى أنه عليه السلام أرى أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين قال له والله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا أراه سفينة في عرض بحر تجلى في الغار فاطمئن لذلك.
ولهذا حين يقرؤون الآية الكريمة :{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ }التوبة40 يعتقدون مباشرة أن كل ما جرى في حدث الهجرة إنما كان بالتدخل المباشر للقدرة الإلهية عن طريق الخوارق والمعجزات التي يرون أنها قد وقعت تأييدا للنبي صلى الله عليه وسلم ولولاها لما كان للنبي عليه السلام وجود أو بقاء وأن دوره عليه السلام في هذا الحدث دور المترقب والمنتظر لحدوث الخارقة التي تنجيه من قبضة أعدائه وتوصله وصاحبه إلى المدينة سالمين, رغم أن المتتبع لهذا الحدث في كتب السير يرى غير ذلك كما أوضحنا سلفا.
ولهذا لا يزال قطاع كبير من الأمة يرقبون النصر والتمكين من بعيد يأتيهم على يد مهدي مخلص أو ولي كريم يجود عليهم بتحقيق ما يصبون إليه عن طريق كراماته الخارقة التي لا سبيل لأحد في تحقيقها إلا به, وشعوب الأرض من حولهم يتقدمون آخذين بزمام المبادرة إلى سنة الله في تحقيق فاعلية الأسباب وتسخير قوى الكون لخدمة مصالحهم وما يتوقون إليه من تقدم ورقي وان كانوا لا يؤمنون بالله ولا يطبقون شرعه.