الصحوة – شريفة التوبي
*ليعلم القارىء العزيز قبل أن يقرأ هذه السطور أن “موت مُعلن” في الأصل عنوان رواية لغابرييل غارسيا ماركيز، ولم تأت العبارة في هذا المقال إلا استعارة لاتفاق المعنى مع الموضوع.
ولعل ذلك “الموت المُعلن” عن الحادث الذي راح ضحيته خمسة من الشباب الأيتام، هو ما دفعني لكتابة هذا المقال اليوم، والذي أجّلت نشره حتى هذه اللحظة، موت صادم وفاجع، وكأننا لم نُصدم ولم نُفجع من قبل، نرى صورهم وكأننا لم نرَ صوراً من قبل، نتساءل ما سر ابتسامة تلك الوجوه الواقفة أمام عدسة الهاتف، أم أنها فقط ” علشان الصورة تطلع حلوة”؟!
ميلاد خفي، وموت مُعلن، وحياة مغيّبة بين الميلاد والموت، لا نعلم عنها إلا ما نصادفه على صفحات الصحف في خبر مبتور ومستقطع بما يناسب أخلاقيات الصحفية وحياء المجتمع وقناع الفضيلة، أو في سرد مرويّ بخيال كاتب. موت مؤلم، جارح، مُبكي، لكنه ما كان بكاء الفقد على الفقيد، بل بكاء الفاجعة، بكاء الغربة التي أتت بهم، والغربة التي أخذتهم، وكأن كل العيون الباكية كانت عيون أمهاتهم، وكل الأيادي التي حملتهم كانت لآبائهم.
شباب صغار ما كنا سنعرف عن وجودهم لولا الموت، وما كنا سنكتب عنهم لولا الموت، وما كان سيحدث هذا التعاطف الجمعي المجتمعي لولا الموت. الموت فقط من أخبرنا عنهم، ومن هزّ القلوب وأوجعها، وربما أوقظ الضمائر، وفتح الباب المغلق عن وجود منسيّ، أسماء معلنة في موت معُلن، أسماء عادية تشبه أسماء أولادنا وأحبّتنا ومن نعرفهم، ولا ندري من أطلقها عليهم أو من اختارها لهم، بالتأكيد لم تكن أماً ولم يكن أباً.
أذكر ذلك اليوم البعيد جداً، حينما كنت في زيارة عابرة لحضور فعالية في دار الأيتام، صادف وجود طفل يتأرجح في مرجوحة، تخيّلت اسمه راشد، تخيّلت أمه، تخيّلت ميلاده وكيف أُحضر إلى الدار، وكيف ستكون حياته حينما يكبر، رسمت له حياة كاملة متخيّلة كما أسعفتني المُخيّلة، حتى أتت الحكاية كما قرأها القارئ، والذي ما زال بعضهم يسألني، هل حكاية راشد حقيقية، هل شمسة موجودة؟ أنا لم ألتق شمسة ولم أعرفها، ولكني رأيت ذلك الطفل الذي ما زالت صورته عالقة في ذاكرتي، وكما خذله الواقع، خذلني الخيال لأن أجعله يعيش حياة سعيدة وكريمة في صفحات الورق. الواقع مهيمن في قوته وجبروته حتى على الحكاية، رغم محاولتي تجميلها، فأتت في أحداثها كما شاء لها السرد أن تأتي، مؤلمة، جارحة، كاشفة، فاضحة.. إلخ.
في الصورة المنشورة لأولئك الشباب الصغار، رأيت راشد، سالم، أحمد، مصطفى، لكني لم أرَ شمسه، كانت غائبة عن المشهد، كما هي غائبة عن الصورة، لكني على يقين أنها موجودة في مكان ما، تنظر للصورة كما أنظر إليها، مختبئة، تبكي ذلك الطفل الذي تعرفه كما لا يعرفه غيرها، ابنها الذي رمته وهو ابن ساعات أو ابن يوم على باب مسجد أو باب مستشفى أو بجانب إحدى حاويات القمامة، كي تداري الفضيحة وتنجو من الجرم، ويحمل هو عارها وذنبها وعار أبيه وذنبه، العمر كله.
ربما آن الأوان لأن نعالج مشكلتنا نحن كمجتمع في رفضنا أو عدم اعترافنا بهذه الفئة، لقد أتوا إلى الحياة أبرياء إلا من ذنب آبائهم، فإن لم نستطع منع الفاحشة وما ينتج عنها، ولم نستطع معاقبة الجاني الذي نجى بإثمه وذنبه، فلنحمِ الضحيّة حتى لا تكتمل الدائرة الخانقة عليه، ولنعامله بما يليق به كإنسان له الحق في أن يحيا حياة كريمة كغيره.