الصحوة – شريفة التوبي
كتبت الكاتبة اليزابيث جيلبرت كتاب بعنوان (طعام، صلاة، حُب)، وعلى غرار عنوان كتابها يأتي مقالي هذا بعنوان في كلمة واحدة مكررة، طعام، طعام، طعام دون صلاة وحُب. ولعل ما دعاني لكتابة هذا المقال أني بحثت ذات يوم عن مكان للصلاة فلم أجد غير المطاعم، وبحثت عن محل للورود ولم أجد غير المطاعم، وبحثت عن مكتبة ولم أجد غير المطاعم، ففي بلادنا وربما في كل العالم أصبح بين كل مطعم ومطعم، مطعم، وبين كل بيت وبيت، مطعم، وفي كل مكان، أينما يممت وجّهك مطعم، حتى تكاد تجزم أن ما من شيء آخر على الطرقات وفي الأسواق والحارات أكثر من المطاعم.
لقد أصبح الطعام كالسحر، فلا تكاد تفكّر فيه أو تشتهيه إلا وتجده حاضر أمامك، حتى وأن ألغيت موقع (طلبات) من هاتفك، وتجاهلت صور الطعام على اللوحات في الشوارع، فأن الطعام سيأتيك، سيلاحقك حتى وأنت على نيّة (دايت)، وستجد من ينقض نيّتك واعتقادك، حتى تُرجِع الوزن الذي خسرته. ففي الممشى وأنت تركض هارباً من طعامك المُنِتظر على طاولة المطبخ، ستتعجب من أكشاك الشواء المنتشرة على مسار الممشى، وستأخذك رائحة اللحم المشوي من رشاقة الحلم، إلى (مشكاك لحم وحبّار بالصبار والتبزيرة). وإن جاهدت وقاومت رغبتك، وأوقفت سيل لعابك، وفتحت هاتفك كي تنشغل بشيء آخر، ستجد الطعام يخرج لك من شاشة الهاتف، في إعلانات متواصلة، وأنت تتابع مسلسلك المفضّل، وأنت تسمع أغنيتك المفضّلة، وأنت مندمج في متابعة ندوة ثقافية، أو تسمع قصيدة لمحمود درويش، ورغم خيار (تخطّي الإعلان) لكن الخيار يأتي بعد أن تكون قد شاهدت نصف الإعلان أو بعضه، وإن هربت إلى مجموعات الوات ساب، لتستعين بصديق ينقذك من هذه المطاردة الدسمة، ستجد رسالة مندسّة بين رسائل الأصدقاء عن الطعام وطريقة طهي كيكة الموسم (سباستيان) أو طريقة إعداد طبق سريع للجوع آخر الليل.
وإن حاولت أن تكون مستثمراً، وفكّرت في عمل مشروع تجاري، واستشرت صديقاً أو خبيراً مالياً سيقول لك بكل ثقة: (إذا تريد تنجح وتربح، افتح مطعم)، حتى كثرت المطاعم وأكشاك الطعام، وتكدّست على أرصفة الشوارع وزوايا الطرقات، ولأن الطعام هو المشروع الناجح والرابح، ازدهرت تجارة الطعام المنزلي، فهي الضمان الوحيد للرزق الحلال، وأصبحت مشاريع الطبخ المنزلية تنافس مطاعم خمس نجوم.
وإن حدث وفكّرت في الخروج في رحلة مع الأصدقاء، فالرحلة لن تنجح ولن تكتمل من غير كبش سمين وجلسة مشاوي. وفي كل تجمّع عائلي، ستحمل في يدك طبق أو طبقين من الطعام، تشارك بهما لمّة الأهل والأحباب، حتى تصبح أصناف الطعام أكثر من عدد المدعوّين، ويصبح الطعام سيّد الجلسة ومحورها.
الطعام مُهمّ ولا خلاف في ذلك، فالإنسان لا يحيا من غير طعام، وما الإنسان سوى شجرة تتغذى (ماء وعيش). وهناك من يقتلهم الجوع كما يقتلنا الشبع، ولا يدرك قيمة الطعام إلا الجائع المحروم، ولكن أن نضع كل هذا الثقل من فكر وعاطفة ووقت في الطعام؛ فذلك أكثر من أن تحتمله هشاشة أجسادنا، وهشاشة عواطفنا وعقولنا. فماذا لو غيّرنا من طريقة تفكيرنا واهتماماتنا، ماذا لو تحوّلت جلساتنا إلى فنجان قهوة أو كوب عصير، وحديث ممتع مع صديق؟ فليس بالطعام وحده نحيا، وليس بالطعام وحده نكسب الأصدقاء، وليس بالطعام وحده تكتمل السعادة الزوجية. هناك الكثير من الأشياء الجميلة التي تُسعدنا، وتستمر بها حياتنا، هناك الكثير من المشاريع الناجحة غير المطاعم، وهناك الكثير مما تحتاجه أرواحنا وأجسادنا مع الطعام، هناك الصلاة، الحُب، الكتب……..، وأشياء كثيرة أخرى.