الصحوة – الدكتور حمد بن ناصر السناوي
في الأسبوع الماضي قدمت محاضرة لطلبة الطب عن أخلاقيات الطب النفسي بدأتها بتعريف الأخلاقيات الطبية و أركانها الخمسة ثم تطرقنا إلى ذكر ما يميز أخلاقيات الطب النفسي عن باقي التخصصات الطبية وعرضنا بعض المعضلات الأخلاقية التي تردنا في العيادة النفسية ، إنتاب بعض الطلبة الحيرة وهم يشاهدون القرارات التي يتخذها المريض و يشرف عليها الطبيب خاصة عندما يجد نفسه أمام خيارين ، أحلاهما مر ، وهو بأختصار تعريف المعضلة الأخلاقية .
ذكرنا بعض الحالات دون ذكر البيانات الشخصية للمرضى فإحترام السرية والخصوصية هو جوهر العلاقة بين الطبيب والمريض ، بدأناها بالحادثة التي وقعت شهر مارس ٢٠١٥ عندما قام الطيار الألماني بإسقاط طائرة مما أدى الى وفاة مائة و خمسين راكبا و جميع طاقم الطيران ، وبعد التحقيق في الحادث إتضح أن مساعد الطيار هذا كان يعاني من مرض الاكتئاب و ذكر لمعالجه النفسي الأفكار الانتحارية التي تراوده و التي كانت السبب في وفاته مع باقى ركاب الطائرة ، إختار المعالج النفسي أن لا يذكر الأفكار الانتحارية عند كتابة التقرير عن لياقة المريض للقيام بعمله ، فكانت النتيجة وفاتة جميع ركاب الطائرة. سألت الطلاب عن رأيهم في ما حدث و ” لو كنت الطبيب المعالج ماذا كنت ستفعل ؟” ، إنتابت الحيرة بعض الطلاب ، فنحن الآن أمام معضلة أخلاقية بين إحترام خصوصية المريض و حفظ أرواح الاخرين ، أجبتهم بأن إحترام الخصوصية ليس حق مطلق بل يجب كسر تلك الخصوصية إذا كان فيها ما يسبب الضرر للفرد أو لأي شخص آخر ، فهنا نطبق مبدأ الضرورات تبيح المحظورات. تسائل أحد الطلبة كيف سمح ضمير المعالج بالتغافل عن إحتماليات ان يقدم مساعد الطيار على الانتحار فأجبته أن الضمائر وحدها لا تكفي لاتخاذ القرارات فأحيانا ننحاز لموقف ما وهذا الانحياز يعمينا عن رؤية الاحتمالات الأخرى.
أقترحت على الطلبة أخذ نفسا عميقا قبل الغوص في مناقشة الحالة الثانية لمريضة في آواخر العشرينات حضرت لعيادتي مؤخرا و أخبرتني أنها تعاني من مرض ثنائي القطب و دخلت مستشفى الطب النفسي العام الماضي بعد إصابتها بنوبة هوس حاد تحسنت تدريجيا واستمرت في أخذ العلاج لتفادي حدوث نوبات أخرى ، منذ أسابيع تقدم لخطبتها شاب من خارج عائلتها، سألت الفتاة أذا كان العريس يعرف عن مرضها فأجابت الأم بأن الموضوع حساس جدا وسري للغاية ولا يعرف عنه أحد خارج نطاق المنزل ، ولن تدمر مستقبل أبنتها بأخبار العريس عن المرض فأغلب الظن أنه سيهرب إذا عرف ذلك ، بل سيضغط عليه والديه لالغاء الزواج، سألتها ماذا لوكان العريس هو المصاب بالمرض النفسي ؟ ألا تعتقد أن من حق ابنتها أن تعرف ذلك قبل الارتباط ؟ سكتت طويلا ثم قالت ” لا اريد أن أفكر في ذلك ” وبذلك أغلقت النقاش في الأمر ، لم ترغب في مناقشة أهمية أن يعرف الزوج بالأعراض التي ستظهر إذا حدثت إنتكاسة لا سمح الله ، ولا عن أهمية تناول الدواء و إستشارة الطبيب قبل التخطيط للحمل ، لا عن حق الزوج في معرفة احتمالية أن يولد أبنائه بنفس المرض ، أغلقت الحوار وإحترمت حريتها و ابنتها في الاختيار وتحمل توابعه.