الصحوة – شيخة الزّهيميّة
تزخرُ اللغةُ العربيّة بتنوع فروعِها، ومجالاتِ بحرها العَميق بمصادرٍ عديدة، وأُمهات كُتبٍ كثيرة، بينما يتفرُّد النّقد العربيّ ببروز كتاب ” الشِّعر والشُّعراء” لابن قتيبة، والذي يُعدّ منهلا نقديًّا، وموردا أدبيًّا عذبًا، يقصِدُه الدَّارسون والباحثون والمتَطلِّعون في مجالات اللغة المُختلفة، ويستقي منه عطشى القراءةِ رغم اختلاف مجالاتِ تخصصهم العلميّة.
يأتي كتاب “الشّعر والشُّعراء” لأبو محمد عبد الله بن عبد المجيد بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة (276هـ) في مقدّمة الكتب المؤسسة لعلم النّقد العربي، ومصادر الأدب الأولى، أحسن فيه المؤلف الأديب، واللغوي الفقيه، الترجمة للشعراء المشهورين، واختيارهِ لمجموعات شعريّة ماتِعة من أشعارهم، كما أجاد النّقد ووازن بين الشعراء، وتضمن الكتاب في مجملهِ مجموعة من القضايا النّقديّة المُتدَاولة على ألسنة متذوقي الشّعر، وملتمسي الجمال في فنون القول والأدب.
إن هذا الكتاب كثيرُ الشُّعراء، غزيرُ النُّصوص، المُصنّف على أنّهُ من المختارات الشّعريّة وكتابا في النّقد، بالإضافة إلى كونه كتابا في التراجم، يتضمّن206 ترجمة، وجزئين هائلين، في أولهما يتحدّث عن الشعر والوجوه التي يُختار عليها التّكلُّف والصَّنعة والطبع في الشِّعر عند الشُّعراء ووسائل استدعاء الشعر وأوقاته، وبيان أهم ما لا يجوز في الشِّعر، وجاء جزئه الثّاني في الشُّعراء والأفكار النقدية بالإضافة إلى تضمين أخبارهم المتمثّلة في اختيار ما استحسنه الكاتب من الشعر، دون تبرير لوجه الحسن فيه، كذلك إبراز موطن السبق عند الشاعر وغيرها.
يسبق هذين الجزئين مقدّمة نقديّة قيّمة عدّها الباحثون من بواكير النّقد الأدبي المصحوب بالعلل، وقد جاء فيها بيان منهج الكتاب والغرض من التأليف، واكتفى فيها ابن قتيبة بوضعه بعض المسائل العامة محاولا وضع المبادئ لها، ولم يتناول نصوص الشّعراء بنقد فني تطبيقي، حيث قال في مؤلفهِ: ” هذا كتاب ألفته في الشعر أخبرتُ فيه عن الشعراء، وأزمانهم وأقدارهم وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو الكنية منهم، وعما يستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره وما أخذته العلماء عليهم من الغلط والخطاء في ألفاظهم أو معانيهم وما سبق إليه المتقدّمون فأخذه عنهم المتأخرون. وأخبرتُ فيه عن أقسام الشعر وطبقاته، وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها ويستحسن لها”.
أما عن القضايا النّقديّة التي عرضها الكاتب في كتابهِ فهي كثيرة، وضح فيها رأيه، وشكّل بها اتجاها جديدا في القرن الثالث حاول التّوسط فيه بين الاتجاهين المتقاربين في زمنه، لاسيّما: قضية القديم والحديث، قضية اللفظ والمعنى، قضية الطبع والتّكلف، قضية الموهبة الشعريّة، قضية التقليد والاحتذاء، قضية إثارة الإبداع، قضية خلود الشعر، قضية الضرورات الشعريّة، قضية أوليّة الشعر وغيرها.
واعتمد ابن قتيبة في ترجمته للشعراء على ثلاثة معاير أساسيّة، جاء في أولها معيار الاختيار ومعناه أن يكون للشّاعر الذي يُترجم له مقياس الشُّهرة ويكون ممن يُحتج بشعره، وإنه لم يترجم للشعراء غير المشهورين معلل ذلك بأن أخبارهم وأشعارهم لا يعرفها إلا قليل من الناس، وذُكِر أنه لم يفعل ما فعله ابن سلام في تصنيفه الشعراء إلى طبقات بل اعتمد الترتيب التاريخي في ترجمته، واستعرضهم دون موازنة بينهم أم مفاضلة بين السابق واللاحق، ثانيًا أن معيار النّقد الذي يعتمد على جودة الشّعر مقياسا وميزانا في المفاضلة بين الشعراء الذين ترجم لهم بعيدا عن العامل الزمني، ثالثا مدى تطبيق المعايير ويذكر أن ابن قتيبة ترجم لستة ومئتين شاعرا بين جاهلي، ومخضرم، وإسلامي، ومن عاصره من العباسيين، وفي كل تلك الترجمات حاول تطبيق معاييره التي ذكرها في مقدّمته إلى حد كبير.
ولغزارة علم هذا الكتاب، وعمق محتواه جاءت حوله الكثير من آراء النُّقاد الدّارسين والباحثين، سأُجمِلها في ثلاثة: قال الأستاذ السيد أحمد صقر في وصفه للكتاب: “وهَذا كِتابٌ مِنْ أَرفعِ كُتُبِ الأَدَبِ قَدْرًا، وأنبَهُهَا ذِكرًا، وأقدَمُها نَشْرًا”، في حين يرى الأستاذ محمد زغلول سلام أن الجزء الثاني من الكتاب ليس سوى نقل لأخبار من كتب سابقيه ومعاصريه، ككتاب البيان والتبيين للجاحظ، وطبقات فحول الشعراء لابن سلّام واتفق معه الدّكتور مندور، بينما الدكتور القدير إحسان عبّاس يقول أن ابن قتيبة فصل طبيعة المقدمة عن طبيعة الكتاب، فكانت المقدمة تصوير لموقف ابن قتيبة من الشّعر، بينما جاء الكتاب تأريخا وترجمة للشعراء.
بلا شك مثّل كتاب “الشّعر والشعراء” صورة عن كتب النّقد التي ظهرت في بداية الدولة العباسيّة، وشكّلت بوادر النقد الذّوقي وأساليبه، التي هدفت إلى إرشاد طبقة الكتّاب والشعراء وتقوية ملكاتهم الأدبيّة، فكان أقرب إلى كتب الأدب منها إلى النّقد، فتضمّن في مقّدمته الآراء النقديّة المُعبّرة عن اجتهاد صاحبها، فعبّرت عن نظرات سليمة وأحكام صائبة كشفت عن بصيرته النقديّة، وحس ذوقي يدرك مواطن الجمال، وعن مقياسه في ترتيب الشعراء فأرى أنّه مقياسا جيّدا وسليما، ولكنّه أخطأ في بعض آرائه وتقسيماته، فمثلا في قضيّة القدماء والمحدثين كان ابن قتيبة يقول: “إنه لا يقدّم شاعرا من المتقدمين بسبب تقدّمه، ولا يميزه عن المحدثين، وأن من المحدثين من برع وأجاد في شعره ..”، ولكن عند تصنيفه لم يذكر أي شاعر من المحدثين ولم يروِ لهم أبدا مع العراء الجيّدين، وأضاف إلى ذلك أنه انتقد شعرهم دون تعليل حكمه النقدي أبدا، بل اكتفى بإلقاء الحكم فقط، ومن الغريب أنه انتقد أشهر ما قاله جرير في وصف العيون: “إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا”، وقال أنه لا معنى له ولم يعلل حكمه، لذا أرى أن إلقاء الأحكام غير المُبررة تبريرا مُقنعا غير جيد في النقد بشكل عام، والشعر والشعراء بشكل خاص.
أخيرا، إن القارئ لهذا الكتاب لابد أن يقرأه بعمق، لا سطحيّة ومرورَ عابرٍ، حتى يستطيع التوفيق بين ما يقصده الكاتب وما أراده، ويُشير إليه علم النّقد الأدبي من مصطلحات وقضايا نقديّة، ويـأخذ منه المعايير الصحيحة والسّليمة التي تؤهِّلهُ لنقد النصوص الشِّعريّة، وطبائع الشّعراء المختلفة، معللا ومبررا آراءه النَّقديّة، دون تركها مبهمة للقارئ.