الصحوة – نصر بن منصور الحضرمي
في قلب البحر، حيث تتلألأ أمواج الفجر كعيون ساهرة، كانت هناك جزيرة تنام في حضن السكون.
فمنذ أن وطئت قدمي السلطان ترابها، انبعثت من بين أحضانها أنفاس الحياة، كأنها كانت في سبات طويل تنتظر من يوقظها.
أحاطت بها هالة من السلام، فعمّ الأمان كل ركن فيها.
تُجَّارها، الذين كانوا يحملون في قلوبهم أحلاماً وآمالاً، استعادوا نشاطهم، وبدأت أصواتهم تعلو في الأسواق، تتناغم مع نغمات الأذان التي تنطلق من مآذن المساجد، كأنها أنشودة تعبر عن وحدة القلوب.
وفي الأفق، كانت أجراس الكنائس ترقص في أبراجها، تعزف لحن التسامح والمحبة، وكأنها تقول إن السلام لا يعرف الحدود.
كلما حل المساء، كانت الجزيرة تتلألأ بأضواء الفرح، حيث يجتمع الناس من كل حدب وصوب، ويتبادلون الحديث والابتسامات.
لقد أصبحت زنجبار رمزاً للسلام، وتحولت إلى لوحة فنية تزينها ألوان الحياة، حيث اجتمعت الثقافات وتمازجت الأديان، فكانت الحياة فيها تنبض بالحب والأمل، وتكتب قصة جديدة من قصص التاريخ، قصة جزيرة عانقت السلام وأزهرت بالأمان في عهد السلاطين.
اشتعلت الأضواء فجأة في داخل الطائرة، وكأنها تنبه الجميع إلى لحظة حاسمة. فاعلن الكابتن العماني بصوته الجهوري: “نبدأ الهبوط التدريجي إلى زنجبار!” وانتابني شعور غامر بالعودة إلى الوطن، شعور يمزج بين الفرح والحنين.
كان قلبي يرفرف كطائر عائد إلى عشه، ولست أدري إن كان هذا الحنين ينبع من ذاكرتي المتشبعة بكتب التاريخ أم من أعماق روحي. كيف لا وأنا أستحضر مشهد خطوات المسافرين المحظوظين، وهم يرسون بمراكبهم على شواطئ زنجبار الفضية اللامعة، تلك الشواطئ التي لطالما كانت ملاذاً للقلوب الباحثة عن السلام؟
كانت أصواتهم تتعالى، تنسجم مع همسات البحر، يرحب بهم أهل الجزيرة بكلمات اللغة السواحلية، التي تكونت من اندماج العربية مع لغة البانتو فأصبحت غنية بالتعبيرات والكلمات العربية، مما يضفي على المشهد سحراً خاصاً. كان الترحيب يجسد الروح العمانية، حيث تلتقي الثقافات وتتشابك الأحلام.
تدفق في ذهني شريط المشهد، حيث كانت زنجبار عاصمة ثانية لعمان سنة ١٨٤٠، كانت شوارعها تعانق أشعة الشمس، وتفوح من بين أزقتها رائحة التوابل والزهور،والقرنفل بينما كانت الأعلام الحمراء ترفرف في الأفق كأنها تعلن عن عودة الروح إلى مكانها.
ما إن دخلتُ المدينة الحجرية، حيث يقع الفندق الذي حجزته، حتى شعرت وكأنني أستعيد أنفاس التاريخ من بين جدرانها العتيقة. كانت الأزقة الضيقة تتلوى أمامي كخيوط العنكبوت، تحمل في طياتها قصصاً من الماضي، وتدعوني لاستكشاف أسرارها.
تجاوزت قصر بيت العجائب، ذلك المعلم الفخم الذي بُني في عام 1883، واحتفظ بمكانته كأحد أبرز المعالم في المدينة. لقد كان هذا القصر أول مبنى تدخله الكهرباء، وأول مبنى يحوي مصعداً كهربائياً، مما جعله رمزاً للتطور والحداثة في زمنه. كنت أتخيل كيف كانت الأنوار تتلألأ في جنباته، وكيف كانت الأقدام تتردد على سلالمه المذهبة.
تأملت النقوش الفخمة والزخارف الذهبية التي تزين جدرانه، وكأنها تحكي روايات من زمن بعيد. كل تفصيل فيه كان يروي قصة من قصص العظمة، حيث كانت الأنامل الحرفية تصنع من الحجر ما يعكس جمال الفنون الإسلامية. كانت الزخارف ترقص تحت ضوء الشمس، وتنبض بالحياة كما لو كانت تعبر عن الفخر الذي يحمله هذا المكان.
في تلك اللحظة، شعرت أنني قد انتقلت إلى زمن آخر، زمن يسوده الجمال والهيبة. كانت المدينة الحجرية تحتضنني كعشيقة تتذكر ماضيها العريق، وتدعوني لمشاركة أحلامها وأسرارها. إنني هنا، في قلب التاريخ، حيث يلتقي الحاضر بالماضي، حيث ينبض كل حجر بقصة، وكل زاوية تحمل ذكرى.
كان الفندق بيتًا، لكن جماله كان يتجاوز كل التوقعات. ما إن دخلته حتى شعرت وكأنني قد عبرت عتبة الزمن، حيث احتفظت كل زاوية فيه بعبق الماضي. كانت تقسيماته الأنيقة تعكس براعة التصميم وذوق صاحبه الرفيع، وكأنها تحكي قصة عمرها عقود من الزمن.
مالكة الفندق الايطالية الجنسية، المستثمرة للبيت، قدّمت لمساتها الخاصة، ولكن بحذرٍ وحب، فحافظت على روح المكان. كانت الأبواب الخشبية المنحوتة بحرفية عالية، والنوافذ المزخرفة بالأقمشة الفاخرة، تنبض بالحياة وكأنها تستقبل الزوار بأذرع مفتوحة. رائحة اللبان كانت تتسلل برفق في الهواء، تضفي على الأجواء سحرًا خاصًا يُشعرني أنني في حضرة تاريخ عريق.
عرفتُ بأن البيت كان مُلكًا لعماني ذي ثراء وفن، عاش هنا وترك بصماته في كل ركن. كانت التفاصيل الصغيرة في الديكور، من الفوانيس النحاسية إلى الدرج الخشبي التقليدي، تعكس ذوقه الرفيع وتاريخه المشرق. كل قطعة أثاث كانت كأنها تحمل حكاية، تنقلني إلى عصور من الفخامة والكرم.
بينما كنت أستكشف أروقة الفندق، شعرت بأنني أعيش لحظات من التجارب الإنسانية، حيث كانت الأحاديث تدور حول موائد الطعام، والضحكات تملأ الأجواء. إن هذا البيت لم يكن مجرد فندق، بل كان ملاذًا للذكريات، وجسرًا يربطني بماضٍ بعيد، حيث كانت الحياة تنبض بالثراء الثقافي والإنساني.
خرجت الى منطقة فرضاني، حيث تمتد أشجار جوز الهند شامخة على مد البصر، كنت أشعر وكأنها تحرس قصور السلاطين المهيبة. كانت أشجار الجوز تنحني برفق تحت نسيم البحر العليل، وكأنها تهمس بحكايات الزمن البعيد.
بدأت خطواتي تسير بين ظلال تلك الأشجار العالية، وعيني تتراقص بين القصور التي تبرز في الأفق. من بيت العجائب، الذي يروي قصة الفخامة والثراء، إلى بيت الساحل وقصر السركال، حيث تلتقي الأناقة بالتاريخ. كانت القصور كأنها حرسٌ أمينٌ يروي قصص العظمة، وبيت ثاني وبيت واتورو وبيت السيد برغش يضيفون إلى المشهد جواً من الهيبة والوقار.
نسيم البحر كان يلاطف وجهي، كأنه يدعوني لأغوص في أعماق الذكريات. في تلك اللحظة، عادت مخيلتي إلى الوراء، إلى مئة عام أو يزيد، حيث كانت الحياة تنبض في كل ركن. تخيلت قوافل التجار وهم يتنقلون بين هذه القصور، تتردد ضحكات الأطفال في الأرجاء، وتعلو أصوات النساء وهن يروين حكاياتهن أمام الأبواب.
كل شيء هنا كان ينطق بالتاريخ، وكأنني أستمع إلى الأصوات التي خفتت عبر الزمن. كانت خطواتي تخطو في أثر أحلام من عاشوا هنا، حيث كانت الحياة تمتلئ بالكرم والضيافة، وكانت كل زاوية تحمل في طياتها عبق الذكريات. في فرضاني، كل شجرة وكل حجر كان يحمل قصة، وكل نسمة هواء كانت تهمس لي بماضي عزيز.
كل شيء هنا يبدو فرحًا، يعج بالحركة والنشاط. من على شرفة بيت السركال، يقف السلطان بابتسامة عريضة، يحيّي المارة برفق وثقة، وكأنه يزرع الفرح في قلوبهم. عينيه تراقبان السفن القادمة من بلده الأم عُمان، ومن مختلف البلدان الأخرى، ترقص فوق الأمواج كأنها احتفالات بحرية، بينما النوارس تحلق حولها، مرحبةً بالوافدين الجدد.
يستشعر السلطان السعادة في شعبه، ويلاحظ كل تفاصيل الجزيرة وهي تستقبل الزوار المحملين بشتى أنواع البضائع. تصبح فرضاني كأنها معرض حي، حيث تتنوع الألوان والروائح، قبل أن تُعاد شحن تلك الكنوز إلى مختلف انحاء العالم .
بينما كنت في عمق المشهد، اصطدمت كتفي بمجموعة من السياح الاجانب، الذين كانوا يستمعون إلى مرشدهم السياحي وهو يتحدث بحماسة: “هنا كانت إمبراطورية عمانية.” استوقفتني كلمات المرشد، كأنها تفتح بابًا إلى التاريخ.
فالمدينة الحجرية تشهد على ذلك العصر الذهبي للجزيرة، حيث كانت الحياة تنبض بالفخامة والثراء. كل شيء فيها ينطق فخرًا بذلك التاريخ العريق، من الجدران المتينة التي تحمل آثار الزمن، إلى الأزقة الضيقة التي تتحدث عن قصص الأجداد.
في تلك اللحظة، شعرت بأنني جزء من هذا المشهد الخلاب، أعيش في قلب التاريخ، حيث يمتزج الحاضر بالماضي، وحيث تنبض كل ركن من أركان المدينة بروح عمانية أصيلة.