الصحوة – خميس بن سالم الحراصي
في ظل تنامي وتزايد منصات وسائل التواصل الاجتماعي في عصر التطور الرقمي الذي نعيشه ونشهده هذه الأيام، أصبحت هذه المنصات مرآه تعكس نمط الحياة اليومية للكثير من الناس في مجتمعنا، وتعرض تفاصيل حياتهم اليومية، ملاحظين تحولًا كبيراً في كيفية تفاعل البعض مع مجريات الحياة ومحيط البيئة التى يعيشون فيها، وما يتم نشره من تفاصيل للرحلات وأعياد الميلاد إلى المآدب الفاخرة وأسلوب الحياة المترف، على الرغم أن مشاركة هذه التجارب قد تبدو بريئة في ظاهرها لدى البعض، إلا أن هذه الظاهرة المتزايدة تثير العديد من التساؤلات حول مدى تأثيرها الاجتماعي والنفسي ليس فقط على الأفراد بل على المجتمع ككل.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس متفاوتين في كثير من الصفات والقدرات والامكانيات، وحتى في مستوى المعيشة، فبعض الناس قد مَنَّ الله عليهم بالمال وأغدق عليهم من فضله وكرمه، وينفقوا ويستمتعوا بما مَنَّه الله عليهم، فيوسعوا على اهلهم وأولادهم في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وهذا ما يحث عليه ديننا الإسلامي، ولكن ضمن ضوابط وحدود، وبدون تباهي او اسراف وان عليهم مراعاة مشاعر واحوال الأسر المعسرة، وذلك للتوازن في الحياة والرفق بالاخرين.
إن مايلفت الانتباه حقًا هو التباين بين ما يتم عرضه، وبين الواقع الذي يعيشه الكثيرون من الناس، فهناك من يعاني في صمت من أجل تأمين قوت يومه، بينما آخرون يتباهون بنشر كل تفاصيل حياتهم المرفهة دون مراعاة لمشاعر الآخرين أو لواقعهم، وهنا تبرز قضية أخلاقية واجتماعية هامة: هل فقدنا جوهر التعاطف والتكافل في خضم سباق الاستعراض؟ وكيف يمكن للتفاخر المفرط أن يخلّف آثارًا سلبية على العلاقات الاجتماعية والنفسية، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها الكثير من الأسر؟
في هذا المقال: سوف نبرز أبعاد هذه الظاهرة وتأثيرها العميق على نسيجنا المترابط ومجتمعنا المتماسك، ويجب علينا اعادة النظر في كيفية توجيه استخدامنا الصحيح لهذه الوسائل والمنصات نحو ما يخدم القيم الإنسانية والإسلامية في مجتمعنا، وأن نكون أكثر وعيًا عند عرض مجريات حياتنا وتعميمها على الملأ، وأن نعلم انها ليست لمشاهد الحياة الفاخرة التى تُعرض بلا هوادة من سفرٌ إلى أرقى الأماكن، او للاحتفالات المترفة، او للمآدب التى تفيض بالمأكولات، بينما هناك مَن يرزح تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة، لأن وسائل التواصل الاجتماعي نافذةً يطل علينا العالم من خلالها، وأن هذه النوافذ الرقمية التي أُنشئت في الأصل جعلت لتعزيز الروابط الاجتماعية وتبادل الأفكار البناءه وليست ساحة للتباهي او التفاخر او الاستعراض.
وقد تطرح هذه الظاهرة العديد من التساؤلات حول مدى تأثيرها على القيم الأخلاقية والمجتمعية، فكيف يمكن للتفاخر العلني أن ينعكس على مشاعر مَن يعانون من ضيق الحال؟ وكيف يتنافى هذا السلوك مع تعاليم الإسلام التي تحث على التواضع والستر، علاوة على ذلك، يتجلى لنا ذلك في الحديث النبوي الشريف توجيهٌ نبيل حول هذا السلوك، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فان كل ذي نعمة محسود” ( رواه الطبراني)، وهذا التوجيه ليس فقط لحماية النفس من الحسد والضغائن، بل هو دعوة للتواضع والاحتفاظ بالخصوصية، بعيدًا عن التفاخر الذي قد يؤدي إلى مشاعر الحسد والإحباط بين الناس.
فمن خلال هذا المنظور، نتساءل: كيف يمكننا تحقيق توازن بين مشاركة اللحظات الجميلة والتزامنا بقيم التواضع والاحترام تجاه الآخرين؟
وفي ظل هذه التحولات الاجتماعية، نحتاج فعلا إلى الوقوف عند هذه الظاهرة، ونتأمل تأثيرها على نسيج مجتمعنا المحافظ، وكيف يمكننا استخدام هذه الأدوات بوعي ومسؤولية، بعيدًا عن التفاخر والتباهي، وان نعكس حس المسؤولية الاجتماعية والاحترام المتبادل اتجاه من حولنا.
ان الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين في القدرات والإمكانات، وحتى في مستوى المعيشة، فمنهم من مَنَّ الله عليهم بالرزق الوفير، وآخرون يعيشون حياة متواضعة. وعلى الرغم من أن ديننا الإسلامي يحثّ على الإنفاق بسخاء على الأسرة، فإن ذلك مشروط بحدود واضحة ويحثّ على تجنّب الإسراف، ومراعاة مشاعر الآخَرين، خصوصًا أولئك الذين يكافحون من أجل تأمين متطلبات الحياة الأساسية.
وما له من تاثير سلبي لذلك الاستعراض على الأسرة والمجتمع، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها العديد من الأسر، وقد يتزايد العبء النفسي على البعض من خلال مشاهدتهم لهذه الصور والمقاطع، الأن بعض الأزواج قد يتعرضون لضغوطات من زوجاتهم بسبب المقارنات المستمرة مع الأصدقاء أو الأقارب الأكثر ثراءً، ما يجعلهم يشعرون بالعجز عن توفير نفس التجارب، وربما يؤدي ذلك إلى نزاعات تؤثر على استقرار الأسرة.
فلا أحد منا ينكر فوائد السفر واستكشاف العالم وأنه أمر جميل وممتع، ولكن نشر التفاصيل الدقيقة حول هذه التجارب في منصات التواصل الاجتماعي بتفاصيلها لغرض التباهي قد تؤثر سلبًا على مشاعر الآخرين، فديننا الإسلامي يُشجّع على الرحمة والرفق بالآخرين، فلماذا نغفل عن هذه المبادئ عند نشر تفاصيل حياتنا؟ وقد جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال في رؤاية : “من لا يرحم لا يُرحم” ( متفق عليه )، وهذا يدعونا إلى التفكير في تأثير أفعالنا على الآخرين.
فيجب نعيد توازن استخدامنا للتكنولوجيا وأن تكون وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للتفاعل الإيجابي والتواصل لنقل المعلومات المفيدة، وليست نافذة للتفاخر والاستعراض، لأن السعادة الحقيقية ليست في عدد “الإعجابات” أو “المشاركات” التي نحصل عليها، بل في الرضا والسكينة الداخلية، ويقول الشاعر: “وَالنَّفسُ راغِبَةٌ إِذا رَغَّبتَها وَإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ”، فلا حاجة للبحث عن السعادة في عيون الآخرين.
وان علينا العودة إلى قيمنا الإسلامية فديننا الإسلامي قد وضع أسسًا واضحة للتعامل مع الجار واحترام ظروفه، كما جاء ذلك في احديثا كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم يوصينا فيها بحق الجار وحسن الجوار، فمراعاة مشاعر الجيران واحترام ظروفهم واجب على كل مسلم، وأن عدم الاستعراض بحياة الرفاهية تعتبر من القيم النبيلة.
ويأتي هنا الدور الرئيس للأسرة في تنشئة الابناء، وتعزيز القيم الصحيحة فيهم، وعلى الآباء والأمهات ايضا أن يكونوا القدوة لأبنائهم، وأن يُعلّموهم أن النعم التي لدينا هي فضل من الله، وأن مشاركة هذه النعم يجب أن يكون بحذر وتواضع، وكما يروي الشاعر: “والنّفسُ كالطفلِ إن تُهملهُ شَبَّ على حُبِّ الرّضاعِ وإن تَفطِمهُ يَنفَطِمِ”، وذلك للإشارة إلى أن السلوكيات تُكتسب وتُعلّم منذ الصغر.
ويتعين على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي أن تلعب دورًا إيجابيًا في توجيه المجتمع نحو قيم التواضع ومساعدة الآخرين. كما يمكن للمجتمعات أن تنظم حملات توعية تسلط الضوء على مخاطر التباهي المفرط، وتعزز من قيم التكافل الاجتماعي.
لإن السعادة الحقيقية تكمن في العطاء والتواضع، وليس في التباهي والاستعراض، وأن نكون رحيمين ببعضنا البعض، ونتجنب إثارة مشاعر الحسد أو الإحباط في نفوس الآخرين. كما جاء في الحديث الشريف للنبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم: “ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء” ( رواه الترمذي ).
فيجب ان نتذكر أن كل ما لدينا هو من عند الله، وهو اختبار لنا، فهل نختار أن نكون شاكرين أم متفاخرين؟
في ختام هذا المقال: يتضح لنا أن الاستعراض والتفاخر عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليس مجرد تصرف عابر، بل هو ظاهرة تحمل في طياتها العديد من الأبعاد الاجتماعية والنفسية والأخلاقية. إن النعم التي منّ الله بها علينا تستوجب الشكر والحفاظ عليها بالكتمان والتواضع، وليس بالتباهي وإظهارها للعالم دون مراعاة لمشاعر الآخرين وظروفهم.
من خلاله: ندعو الجميع إلى إعادة التفكير في كيفية استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي، والابتعاد عن نشر مظاهر الرفاهية التي قد تسبب الألم والحسد للآخرين، وأن نتذكر دائمًا أن التواضع والستر هما من القيم الإسلامية النبيلة التي تحث على التكافل والرحمة، وأن السعادة الحقيقية تكمن في الإحسان إلى الآخرين والتعاطف معهم، وليس في الاستعراض بما نملك، وإن مسؤوليتنا جميعًا تكمن في تعزيز هذه القيم في حياتنا اليومية، لنكون سببًا في إسعاد الآخرين ودعمهم، وليس في إيذاء مشاعرهم، وأن نستخدم هذه النعم فيما يُرضي الله ورسوله والمؤمنين، لنبني مجتمعًا يقوم على التكافل والمحبة.