الصحوة – د. خديجة الشحية
من أسماها بهذا الاسم كان يعلم يقينًا أنها ستكون نجمة وسلامًا ونورًا وضياءً ومجموعة من الشموع المعلقة، والمنارة متعددة الألوان، وعلامة فارقة في العائلة. ليس فقط لأن اسمها ثريا، بل لأن معدنها يختلف عن الكثيرين بصفات عديدة.
تربيتها راقية، وتعاملها راقٍ جدًا. لم تدرس في أرقى المدارس لكنها نشأت في بيت علم وتربية رفيعة. خلوقة، كريمة، معطاءة. لا تسمع إلا عن كرمها ويدها السخية. لا تفكر بما تهب بقدر ما تفكر أن تعطي وكفى. استشعرت ذلك خلال ساعات من يوم أن أصبحت عمتي (أم زوجي). زوجي الذي أخذ منها ذلك الكرم وتلك الطيبة وذلك القلب الحنون الجميل. لم يحظَ بكامل صفاتها، لكنه أخذ بعضها.
ليته أيضًا يتصف بالحلم والأناة مثلها.
العمة ثريا، الإنسانة التي نشأت في الوادي بين الصخر والحجر، لكنها ليست بقسوة تلك الصخور والحجارة. ليست قاسية القلب. سكنت تلك التضاريس المرتفعة لكنها احتفظت بتكوينها الإنساني بمعدنها كأنثى، تتصف بالرحمة والحنان والعطاء والرأفة.
لا أخفيكم، تمنيت يومًا أن أرى عصبيتها، لكنها – ولله الحمد – لا تملك تلك الصفة المنفرة. لأنها مختلفة تمامًا. فتلك الصفة لا تخصها، لا تملكها، ولا تعلم أين تسكن، إن آمنا بسكونها بالقرب منها. العالم يشيط من حولها غيظًا وعصبية، وهي بردًا وسلامًا. العالم يتقاتل على القطيعة والإرث. العالم يتعارك من حولها بالخصومات والعداوات، وهي لا دخل لها بكل ذلك التشاحن. كل همها الأبناء والتفافهم حولها، وهو بحد ذاته غناها الحقيقي الذي تنعم به. الأخوة والأخوات أهم من كل ما قد يعكر علاقة الدم بينهم.
صلة الرحم تحرص على ألا تفقد ترابطها. قد لا أظلمها إن قلت بأنها تخصص صلة رحم. حتى وإن لم يقوموا هم بزيارتها بشكل متواصل، تشعر بينها وبين نفسها أن لزامًا عليها أن تصل الجميع بلا انقطاع وبشكل يومي دون ملل أو كلل.
وتتمنى أن يقلدها أفراد أسرتها بذلك الواجب والتواصل مع الأهل والجيران والمعارف. تنشر حبًا وسكينة وتواصلًا بطبيعتها المحبة للجميع.
قد يزعجها عندما تطلب مني مرافقتها لإحدى القريبات أو الجارات وأتكاسل – حقيقة – عن ذلك لأنني نوعًا ما لست مع الزيارات المفتوحة دائمًا. أحب التواصل وأحب التعرف على أحبة العمة ثريا الغالية، لكني أحيانًا أستكين للجلوس برفقتها ورفقة أفراد البيت الذين يتقاطعون معها في أغلب صفاتها وسخاء يدها الكريمتين، لأنهم تربيتها الخالصة وودها وتسامحها وقربها من الأهل.
العمة ثريا لا يوجد في طقوسها الانعزال أو إبداء الأعذار ومعاملة المحيطين بطباعهم. هي متفضلة عليهم بذلك التعامل النادر في هذا الزمن الغابر الذي نعيشه. وقد قل أشباهها ومثيلاتها من نساء النخوة والكرم والطيبة.
هي بنت شيخ كريم – رحمه الله – لكنها قبل ذلك هي “شيخة” بطباعها وتربيتها الفاضلة.
من عادتي في صغري تقبيل يد أمي ورأسها كلما أصبحت. وشعرت بأن ذلك واجب علي تجاه العمة ثريا. فقد فرضت علي احترامها وتقديرها. ذلك الإحساس لم يتسرب لي فجأة، لكني شعرت به وأحسست به. وعندما أنشغل عن زيارتها لأكثر من شهر بسبب أعمالي وارتباطي ببعض الفعاليات في محافظة مسقط، زوجي لا يحبذ الذهاب بمفرده لأنه يجب أن يقنع العمة ثريا لماذا لم أحضر معه. وتظل تسأل: “لماذا لم تأتِ خديجة معك؟”
وأتذكر بذلك كلام أمي عندما أظل لأشهر لا أذهب إلى محافظة مسندم، وتنعتني بالقلب البارد. وكيف لم أتحرق شوقًا لرؤيتهم؟ وكيف لي بذلك الصبر عنهم حتى وإن كانت المسافة بعيدة؟ أمي تعتبر البعد بعد القلوب وليس بعد الدروب. وأتفق معها بذلك. لكننا نتأخر بزيارتها مجبرين لكثرة الأشغال.
العمة ثريا لا تنعتني بتلك الصفة، بل تكتفي بالسؤال الذي يخفي خلفه عتبًا كبيرًا. عتبًا جميلًا من قلب محب أيضًا: “لماذا لم تأتِ؟”
الفرق بين أمي والعمة ثريا:
أمي تعاتبنا صراحة لماذا لا نزورها شهريًا، ولا تخفي شوقها لنا، ولا تتمنع عن الاتصال والعتب. وليرتاح خاطرها، أطيبها ببعض الأعذار التي منعتني من الذهاب لخصب.
أما العمة ثريا فلا تظهر ذلك الشوق إلا بكلمتها التي تغلفها بالكثير من العتابات الجميلة: “سويتي خليييوه خديجة.”
هذه العبارة تجعلني أخجل من نفسي بتقصيري تجاهها. فهي بحق بمقام أمي وأكثر. لم أشعر بينهم بأني غريبة. ولم أستشعر هذا الإحساس من أي فرد بعائلة العمة ثريا.
هل هو النقاء الذي يمشي على الأرض وينتشر بينهم؟ أم هي الأرزاق التي قسمها لي الله سبحانه وتعالى بأن أكون ضمن عائلتهم البسيطة التي تتمتع بالحب والسلام وكرم الأخلاق؟
بفضل دعوات طيبة خبأتها أمي الحبيبة بين أدعيتها الرحيمة لي، وقبلها والدي الذي ساندني ودعمني لأكون لما وصلت إليه اليوم.
لا يسعني إلا أن أحمد الله على نعمة الأسرة والأمن والأمان. وأدام الله العافية والسكينة على العمة ثريا وأحباءها من حولها.