الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
الاختلاف في الأفكار والآراء والتوجهات أمر حتمي تفرضه سنن الكون ونواميسه، ولعلّ أول حالة اختلاف وقعت كانت بين ابنَي آدم عليه السلام قابيل وهابيل ، وقد وردت قصتهما في سورة المائدة ” واتلُ عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتُقُبِّل من أحدهما ولم يُتَقبل من الآخر، قال لأقتلنك ، قال إنما يتقبل الله من المتقين ”
لذا فإن الاختلاف سيبقى قائمًا ما دامت السماوات والأرض، فهو قديم قِدَم الخلق ، وهو كذلك طبيعة بشرية، إذ لا يمكن جمْع الناس على كلمة واحدة، وصدق الله عز وجل إذ يقول” : “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذَلكَ خَلَقَهُمْ” (118-119) سورة هود.
والاختلاف ليس دومًا كما يراه البعض شراً مستطيراً، بل لا يعني الكراهية المتبادلة بين الفرقاء حين تتعدد الآراء في الموضوع الواحد، بل هو ظاهرة صحية وجزءًا أساسياً من خصوصية العقل البشري الذي ميزه الله عن سائر المخلوقات الأخرى، التي لا تملك عقلاً يُحركها ويكبح شهواتها ويمكنها من التمييز بين الصالح من الضار.
إن تمايز الآراء وتباينها دليل عمق في التفكير والبحث والتنافس الشريف، يعقبه تكامل وتناغم في الرأي الذي يُصار إليه في المسألة الواحدة بعدما تكون تلك الآراء قد تلاقحت وتمازجت وانسجمت في هدوء تام بعيدًا عن التشنج وقرار الرغبة في الإقصاء وادعاء الغلبة، التي بالتأكيد سوف تفضي إلى الشحناء والبغضاء وعواقب وخيمة .
وإذا كان الاختلاف أو الخلاف في الأمور الفكرية والتعبيرية في شؤون الحياة والسياسة والمجتمع والعمران والحرب شيئًا طبيعيًّا ومحمودًا، بل ونراه ضرورة من ضرورات التجديد والاستمرار، إلا أن هناك مسائل لا يجمل الاختلاف بشأنها ، بل لامجال للاختلاف فيها، ولا يقبل التباين حولها، إما لأنها حقائق ومسلمات، وإما لأن الله سبحانه وتعالى كتبها وفرضها علينا لا مجال للاجتهاد فيها كما في الفرائض والثوابت العقائدية، والمعلوم من الدين بالضرورة . فطاعة الله واجبة لصحة وصلاح ديننا ودنيانا، ولكي نظفر بحسن الجزاء في آخرتنا التي إليها معادنا .
غير أننا نشاهد عالم اليوم يمُوج في غيامٍ سوداء مخيفةٍ من الأفكار غير السوية والضلالات المقنعة والممنهجة والتي تؤدي بالضرورة لجرائمٍ وصراعاتٍ ونزاعاتٍ وخلافاتٍ لا حصر لها بين بني البشر قاطبةً، فلقد ابتعدنا كثيراَ وعن قصدٍ مسبق عن ثقافة الاختلاف وعن أدب الحوار بمفهومه ومضمونه الذي طالما تمنيناه ونادينا به في كتاباتنا وفي المؤتمرات والندوات وخلف ناقلات الصوت، وهو الأمر الذي كنا نخشى أن يُحدث حالة من الانقسام الحاد في المجتمعات،رغم أن الجميع يُردد مقولة ” الاختلاف في الرأي لا يُفسد للود قضيّة “، وكما ينادي بحرية الرأي وبحق الاختلاف، إلا أنّ الممارسة تأتي عكس ذلك، فالكل يُمارس قمع الآخر لمجرد الاختلاف، والكل يرتكب جريمة “الرذيلة الحوارية”، وخاصة مع نشأة الإعلام الأصفر الكاذب والطابور الخامس الذين لا همٌ لهم إلا خلْق الفتن والأحقاد، تدعمهم ما يسمونهم بالنّخب، سواءً كانت علمانية أو ليبرالية أو تلك المشبعة بالأفكار الدخيلة، ولكنهم للأسف هم مجموعة من النخب منزوعة الضمير التي لا همّ لها سوى إشاعة الفوضى وتحقيق مآرب شخصية، ليست ببعيدة عن مطالب الشهرة أو كسب الأموال أو السير مطايا خلف أعداء استقرار الأمم والشعوب تدفعها إلى ذلك نوازع الشّر المستحكم على عقولها وتصرفاتها غير خالية من عقد النقص والدونية، بل وحتى الأمراض النفسية التي تتعالى نفوسها عن الاعتراف بها وعلاجها. وهؤلاء للأسف الشديد بيئة سهلة وهشة يمكن اختراقهم وتطويعهم من قبل مجاميع وحكومات شريرة وخبيثة، لا همّ لها سوى هدم الأوطان واستقرارها، وتفكيك نسيج مجتمعاتها.
ومع غياب ثقافة الحوار وأدب الاختلاف سلمت بل استسلمت العقول لنظرية جديدة عنوانها ” إن وافقتني في الرأي فأنت معي وصديقي وإن خالفتني الرأي فأنت ضدي وعدوي اللدود ” وبموجب هذه النظرية البغيظة التي تفشّت بين الأفراد، اشتعلت محطات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي بالسباب والشتم، وحلت الشحناء والبغضاء ولجم فم المخالف بالحجر محلّ المودة والتسامح وتقبّل الآخر، وصنعنا واقعاً بغيضاً مليئاً بالخصومات والعداوات والأحقاد بين المتحاورين والمختلفين في كافة القضايا الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والوطنية، وعلَت أصوات التكفير وإخراج المؤمنين من ملل الأديان، وانتهاك الأعراض التي لم تسلم من هذا الجو المسموم، ناهيك عن اصطباغ لغة الحوار بمصطلحات التخوين والتطبيل والنفاق، وابتدعت جدولًا لتصنيف الناس، يستند إلى معيار وحيد يقوم ويقول بعدم السماح لتعددية الأفكار ولا يقبل بالحوار البناء الهادف.
ويا ويل أمة استسلمت لطائفة أو فريق لا يخدم وحدتها ولا يُعلي مبدأ التسامح والعيش المشترك على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، بل يجمعهم المصير الواحد التي تنضوي تحته كل الآراء والأفكار من دون شطط أو تعسف في الطرح .
ولأننا جزء من هذا العالم نُؤثّر ونتأثر به، فقد تأثر بعضنا بهذا الاضطراب الفكري والتأزم الأخلاقي والتقليد السلوكي الأعمى ، فالريح إذا عصفت ببيتٍ لن تُبقي بيتاً آخر بجانبه من غير أن تعصف به.
وبدأت تظهر دكتاتورية فرض الأنا والرأي الواحد ومصادرة فكر وآراء الآخرين مهما كان خطل وفساد ذلك الرأي وعدم صوابيته، كما طغى “الإرهاب اللفظي” الذي هو في نظري أشد وطأة من الإرهاب الجسدي؛ لأنه يغتال كرامة الإنسان وحقه في أن يكون له رأي خاص يستطيع الجهر به، ولقي أصحاب النفوس المريضة من خارج الوطن فرصة سانحة لهم ليندسوا بأسماء ورموز مستعارة لينفثوا سمومهم لزرع الفتنة وشق الصف وتفتيت عضد الأمة العمانية.
لذلك ما أحوجنا اليوم، كمجتمع تربى على الوسطية والاعتدال في الأقوال والأفعال لتجسيد ثقافة الحوار الهاديء المتزن وإعلاء أدب الاختلاف وقبول الرأي الأخر بكل تقدير واحترام، بغض النظر عن القناعة أو التسليم به، ولنجعل مذهبنا ومنهجنا التسامح مع كل الأطراف مهما تباعدت وجهات النظر، وعلينا أن نؤمن بأن الحوار العقلاني سوف يساعد على معرفة نقاط القوة والضعف بعيدًا عن الغمز واللمز والتباغض والعنف، وبهذا نكون قد اخترعنا الوصفة الدوائية السحرية الفعالة لأحد الأمراض المستعصية التي تعاني منها البشرية كافة .
يجب أن لا يجرنا الخلاف في الرأي إلى ساحات ومعارك اقتتال يخسر فيها الجميع، وعلينا أن لا نحمل هذا الخلاف على محمل شخصي، فالتمييز بين الفكرة وصاحبها أمر أساسي في ثقافة الحوار وأدب الاختلاف، ذلك أن الآراء تتغير وتطويها الأيام، وبعضها تُنسى مع مرور الوقت، لكن الضغائن تبقى في نفوس البشر، وتحفر أخاديد في القلوب يستحيل محوها .
إن احترام أفكار وآراء الأخرين ، يُعَد وسيلة مُثلَى للحوار، وطريقة أسرع وأوفق للإقناع، والإحترام المتبادل والكلمة الطيبة تأسر القلوب وتخلق المودة بين المتحاورين والمختلفين، وتفتح مغاليق صعبة الفتح، تعجز عنه أساليب القسوة والعنف، والذي لا شك فيه أن تجهيل وتحقير الآخرين يجلب ردات فعل عنيفة مستمرة ومتواصلة لا تقف عند مناقشة الأفكار، لذا يجب أن يكون النقاش موضوعيا بدون إهانة أو تجريح أو ازدراء، وبذلك تهدأ النفوس وترتاض الأفكار طواعية كما ترتاض للشاعر قوافي الشعر والبيان .
ويلزم كذلك تجنب استخدام بعض الألفاظ أوالعبارات والكلمات الاتهامية، التي تُعمّق الجدل وتُزِيد الفجوة، كما أن السيطرة على المشاعر والإصغاء التام للمحاور الآخر عند الحوار يُعدّ أمراً مهماً وضروريا لإظهار الاحترام واستيعاب وجهة نظر الطرف الآخر، وبالمقابل عرض الفكرة البديلة، ذلك ان الضجيج والصراخ حيلة الشخص العاجز عن الترويج للأفكار الهادفة والنبيلة .
وأخيرًا، فهذه دعوة مني صادقة ، ومن قلب لا يحمل إلا الودّ للجميع، لنتمسك في حواراتنا ونقاشاتنا وخلافاتنا بقيم الدين والأخلاق، فأعقل الناس من جمع عقله إلى عقول الناس، فالعقول كالمصابيح إذا اجتمعت ازداد النور ووضح السبيل، وعلينا أن نقتدي برسولنا الكريم صلاة الله وسلامه عليه، الذي خاطبه ربه قائلا: “وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ”