الصحوة – مروان بن أحمد بن محمد الشيذاني
إن للبحث العلمي أهمية كبيرة في التطور والنمو المستمر في شتى المجالات، وقد أولت سلطنة عمان اهتمامًا كبيرًا بهذا الجانب بدءًا من تغيير اسم “وزارة التعليم العالي” إلى “وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار” بالمرسوم السلطاني رقم “٩٨/٢٠٢٠”، وزيادة الدعم فيه وإطلاق مبادرات ومسابقات لتعزيز هذا الجانب، ومن أهمها “الجائزة الوطنية للبحث العلمي” وقد وصلت إلى نسختها الحادية عشرة في عام ٢٠٢٤م. يعتبر البحث العلمي هو المحرك الرئيس للتقدم والابتكار. ولكن رغم أهمية هذا المجال في دفع عجلة التطور والنمو، يواجه العديد من الباحثين تحديًا كبيرًا في الحصول على الاستجابة المناسبة من المؤسسات العامة والخاصة، وخاصةً عندما يتعلق الأمر بالمشاركة في الاستبانات.
في بحثي الذي استهدف بعضًا من أكبر الشركات والمؤسسات الحكومية في سلطنة عمان، كانت النتائج صادمة؛ حيث لم تصل عدد الردود إلى 50، وهو ما يعد بمثابة إشارة قوية لوجود فجوة كبيرة في الوعي بين المؤسسات وأهمية البحث العلمي. هذه القلة في الاستجابة تفتح بابًا للعديد من التساؤلات: لماذا لا يدرك المسؤولون في المؤسسات القيمة الحقيقية للبحوث العلمية؟ ولماذا لا يتجاوبون بشكل أكبر رغم أن الأبحاث تمثل فرصة حقيقية لتحسين الأداء وتحقيق النمو؟
يعد غياب الاستجابة الكافية من المؤسسات للمشاركة في البحوث العلمية -بما في ذلك الاستبانات- مسألة معقدة تُظهر فجوة في الوعي بأهمية البحث العلمي في البيئة العملية؛ لذا فإن الإجابة على سؤال لماذا لا يدرك المسؤولون في المؤسسات القيمة الحقيقية للبحوث العلمية -من وجهة نظري- هي أن غالبًا ما يركز المسؤولون على الأولويات الفورية مثل زيادة الأرباح، تحسين الإنتاجية، أو تجاوز التحديات اليومية. البحث العلمي، في نظر البعض، قد يُعتبر عملاً أكاديميًا بعيدًا عن الواقع العملي للشركة. كما أن بعض الشركات قد لا تدرك كيف يمكن أن يسهم البحث في تحسين الأداء المؤسسي، وابتكار المنتجات والخدمات، أو إيجاد حلول للمشاكل المعقدة التي تواجهها.
كما أن إجابة سؤال لماذا لا يتجاوب المسؤولون في الشركات بشكل أكبر رغم أن الأبحاث تمثل فرصة حقيقية لتحسين الأداء؟ أرى أن أهم الأسباب هو انشغال المسؤولين بالمهام الموكولة إليهم فغالبًا ما تكون جداول أعمالهم مليئة بالعديد من المهام التي تتطلب الوقت والاهتمام، مما يجعلهم يفضلون التركيز على القضايا العاجلة بدلًا من تخصيص وقت للإجابة على الاستبانات البحثية الطويلة. السبب الثاني، حساسية المعلومات الداخلية للمؤسسات، وخاصة في ما يتعلق بالبيانات المالية أو الاستراتيجيات المستقبلية؛ حيث أنها تجعل العديد من الشركات تتردد في المشاركة خوفًا من تسريب معلومات قد تؤثر على سمعتها أو تنافسيتها.
يمكن التغلب على هذه التحديات من جانبين: الأول من جانب الباحث، يجب أن يعمل الباحثون على تبسيط الاستبانات بما يتناسب مع طبيعة عمل المؤسسة المستهدفة من خلال دراسة هذه المؤسسات والبحث عنها. وعليه يمكن تصميم استبيانات بسيطة وقصيرة لا تستهلك وقتًا طويلاً من المسؤولين، بحيث تكون أسئلتها واضحة ومباشرة ذات تصميم مميز وتتناول القضايا التي تهم الشركات بشكل خاص. كما أنه يجب توضيح ما هي الاستفادة التي ستحصل عليها هذه المؤسسات من المشاركة في البحوث وكيف يعزز هذا البحث الشراكة المجتمعية التي تسعى كل الشركات لتحقيقها.
أحد التجارب من مسابقة ندجاثون (Nudgeathon) – هو مصطلح مستحدث من قبل علماء النفس السلوكي في المملكة المتحدة- لحل معضلة قلة الاستجابة من المرضى في مستشفيات صحة كوينزلاند (Queensland Health) في أستراليا؛ حيث تم استخدام منصة مبتكرة تعتمد على تقنية رمز الاستجابة السريعة (QR) لتحفيز المشاركين على التفاعل مع الاستبانات. تضمنت هذه المنصة تصميمًا جذابًا يعكس تجربة مخصصة للمشاركين، مع أدوات تفاعلية مثل اختبارات قصيرة وفيديوهات تعريفية، مما ساعد على جذب انتباههم وتشجيعهم على إكمال الاستبانات. كما تم تبسيط الأسئلة لتكون قصيرة ومباشرة ومرتبطة بموضوعات ذات صلة مباشرة بعمل المؤسسة. بالإضافة إلى ذلك، تم توفير معلومات حول أهمية المشاركة في تحسين الأداء واتخاذ القرارات المستنيرة، مما زاد من نسبة الاستجابة بشكل ملحوظ. هذه التجربة تؤكد أن التوجه نحو تصميم مبتكر ومخصص للاستبيانات يمكن أن يؤدي إلى تحسين التفاعل والاستجابة، خاصة عندما يتم مراعاة احتياجات وظروف المؤسسات المستهدفة. أخيرًا، يجب التأكيد على أن المعلومات التي يتم جمعها من الاستبانات ستُستخدم فقط لأغراض البحث ولن يتم نشرها أو تسريبها لأطراف أخرى. استخدام سياسات حماية البيانات والامتثال للمعايير القانونية يمكن أن يزيد من ثقة الشركات في المشاركة.
أما الجانب الآخر فهو توعية المشاركين على أهمية الإجابة على الاستبانات وأسئلة المقابلات من خلال تنظيم ورش عمل وحملات توعية تسلط الضوء على أهمية البحث العلمي في تحقيق الفوائد الاقتصادية والاجتماعية في كل المؤسسات. أيضًا، عمل شراكات مع القطاع الخاص وتشجيع التعاون بين المؤسسات البحثية والشركات لتحقيق أهداف مشتركة، مما يعزز ثقافة المشاركة في البحث العلمي ويوفر فرصًا لتبادل المعرفة والخبرات. وأخيرًا، أقترح أن يتم إنشاء منصة من قبل الوزارة تجمع فيها الباحثين بالمشاركين المستهدفين في البحث بحيث يدخل الباحث أسئلته إذا كان استبانة، أو يقدم طلبًا إذا كان يريد عمل مقابلات مع الفئة المستهدفة، بعدها تتولى الوزارة نشر هذه الأسئلة لتلك الفئات المستهدفة وتكون العملية منظمة بشكل أكبر.
في الختام، إن قلة استجابة الشركات للمشاركة في البحوث العلمية يمثل تحديًا يستدعي تعزيز الوعي الثقافي بأهمية البحث العلمي. من خلال العمل على توعية المؤسسات وتبسيط عملية المشاركة، يمكن تمهيد الطريق لتحقيق استفادة متبادلة بين القطاع الأكاديمي والقطاع الخاص. يجب أن نعمل جميعًا على ردم الفجوة بين الأبحاث العلمية والتطبيقات العملية في المؤسسات من أجل تحقيق تنمية مستدامة وابتكار يدفع نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي.