الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
تُعتبر الحرية قضية شائكة ، لارتباطها بمفاهيم فلسفية وسياسية وقانونية وأخلاقية واجتماعية ، ولا يتسع المقام هنا للحديث عن كل هذه المفاهيم والمصطلحات العميقة ، لكن يكفي الإشارة ، إلى أن مساحة الحرية المُتاحة في أيّ بلدٍ يُقاس عليها بما وصل إليه الرسم البياني لمستوى الديمقراطية في ذلك البلد ، فإن هناك تلازماً طردياً بينهما ، وتأثيراً متبادلاً مستمراً ، فيتوقف قياس كل منهما بما يؤثره في الآخر على أرضِ الواقع ، وليس بالشِعَارات الرنانة التي يُروج لها البعض من غير إدراك أو وعي لمفاهيمها ودلالاتها والتبعات التي تُحدثها ، إن هي مُورِسَت بصورة فَجّة وخارج صندوق الأمان الذي يضبط إيقاعها من غير إفراط ولا تفريط ، وعلى قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” .
فإذا كان للإنسان الحق في قولِ أو فعلِ ما يريد ، انطلاقًا من إنسانيته التي خلقه الله عليها “متى استعبدتم الناس وقد ولدَتهم أمهاتُهم أحرارًا”؛ فإن مساحة الحرية وسقفها تخضع في الغالب لقواعد القانون والعرف الاجتماعي ومباديء الدبن ، ذلك أن الحرية المنضبطة لا تعني التجاوز والتدافع والفوضى والإساءة للآخرين ، تحت أي ظروف أو مبررات تُنازِع وتُهدر لُحمة المجتمع ، أو تُهدّد السلْم الأهلي ، لتعصف في نهاية المطاف بالقانون الذي ارتضته الجماعة لضبط كافة شؤون حياتها العامة والخاصة ، فدور القانون ومعه الأعراف الاجتماعية ومباديء الدين ، هو وقاية المجتمع من الاختلال والاضطراب ، وحماية حقوق الأفراد ، وتحقيق التوازن بين المصالح المختلفة والمتنافرة في أحيانٍ كثيرة ، ومحصلة ذلك كله هو تعبير عن إرادة الأمة ، وبموجب ذلك يجب أن يخضع له الجميع حكامًا ومحكومين ، أفرادًا وجماعات ، وهذا ما يُعبّر عنه بمبدأ سيادة القانون ، فالقانون هو الميزان الذي يضبط سلوكيات الإنسان وتصرفاته داخل المجتمع بما فيها حقوقه وحرياته ، وما لم يكن كذلك فستعمّ حرية الغاب والتوحش والعدوان والتغوّل ، وبالتالي تسطو نوازع الشّر على قِيَم الحرية والمسؤولية ، فتفقد غايتها الإنسانية والاجتماعية .
وممّا لا شك فيه ، أنّ القانون يحتاج إلى سلطة تحميه وتكفل تطبيقه واحترامه من قبل الكافة ، لأنّ الفرد يصدر في تصرفاته وسلوكه عن غريزته النرجسية وحبه لذاته ، وإذا تُرك له الأمر والسلوك وفقًا لمشيئته ورغباته ، لغلّب مصلحته على مصالح الآخرين ، وعندئذ ستعم الفوضى والاقتتال بين أفراد المجتمع ، وسوف يصدق قول اللغوي الكبير والشاعر أبو الأسود الدؤلي :
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم
وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا
وَالبَيتُ لا يُبتَنى إِلّا لَهُ عَمَدٌ
وَلا عِمادَ إِذا لَم تُرسَ أَوتادُ
فَإِن تَجَمَّعَ أَوتادٌ وَأَعمِدَةٌ
لِمَعشَرٍ بَلغوا الأَمرَ الَّذي كادوا
وعلى الرغم من الاهتمام الواسع من قبل السياسيين والقانونيين والباحثين ، بمصطلح – الحرية – وهي من أكثر المفردات تداولاً واستهلاكاً في الحياة اليوميّة على مستوى الأفراد والجماعات ، إلا أننا نتجاهل وبشكل واضح تلك العلاقة التبادلية بين الحرية والمسؤولية ، فالأصل الثابت أنه لا حرية من دون مسؤولية ، والعكس أيضًا صحيح ، إذْ لا مسؤولية في غياب الحرية ، فإذا كانت “الحرية” هي : قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه باختياره وإرادته الذاتية الحرة ، فإن “المسؤولية” هي : تحمّل الإنسان تبعات ونتائج ما يفعله أو يتركه باختياره وإرادته الذاتية الحرة كذلك .
إنّ أزمة الحرية في الوقت الحاضر تكمن في تحريف مفهومها والعصف بمقومات وضوابط ممارستها ، فهذه القيمة الجميلة تشوهت أو لنقل شُوِهَت ، بسبب الممارسات المنحرفة والمتسيبة وغير المنضبطة ، في ظل عدم الاكتراث بقواعد الدين والأخلاق والقانون ، والابتعاد عن الفطرة السليمة التي خُلِقَ عليها البشر أجمعون ، وساعد على ذلك انتشار الإعلام الصاخب الموجَّه ، والذي دأب عن عمد في تلويث الأفكار والعقول بهدف صرف الشعوب عن التنمية والإبداع والابتكار .
إنّ الحرية القمعيّة أو الساديّة ، إن صح التعبير ، التي يمارسها البعض تجاه الغير ، تنم عن اختلال في العقل وشذوذ في التفكير
وسلوك غير سويّ ، يجنح إلى الشَرّ وتبعاته .
ومما يُؤسف له أصبحت كلمة ” حرية ” النبيلة معنًى والجميلة ذهنًا وتقبّلًا ، أصبحت – للأسف – تعني في وقتنا الحالي الانحراف والتسيّب وعدم الانضباط ، وعدم الاعتراف بضبطٍ من شرعٍ حنيف أو عُرف صحيح أو عقل صريح أو فطرة سليمة … وذلك راجع إلى التصور المختل العليل لهذا المفهوم الرائع النبيل ، الذي فُصِل قسرًا وبقصدٍ عمْدٍ خبيث ومغرض ، عن توأمِهِ ومكمّله ونصفه الآخر ، ألا وهو “المسؤولية”.
والذي يغدي هذا الخللَ والعوارَ في الفكر والثقافة والسلوك ، هو الغزوُ الثقافي الغربي ، في ظل الاكتساح العولمي غير المسبوق ، والذي صادف قابليةً لدى كثير من الأفراد اليوم ، بسبب المسخ الثقافي والخواء الروحي ، والارتماء في حمأة البهيمية والتقليد الأعمى من غير تبصرة أو تبصر ، أو إحكام للعقل الذي أصبح وكأنه منوّم مغناطيسيّا ، أو ميت إكلينيكيّا ، بحجة مسايرة التطور ، لدرجة التهور . وتلك مصيبة المصائب .
من هنا فإن الحرية تُوجب على الفرد تحمّل المسؤولية واحترام القوانين وعدم التجاوز والتناحر في أمور الحياة العادية ، وها هو الفيلسوف الهندي أوشو يقول في هذا الشأن : «أول خطوة في طريق الحرية هي أن تتوقف عن إلقاء المسؤولية على الآخرين» .
وأخيراً نقول : إنُ الحرية فِعلٌ أو كلمة ، إن أحسنَ المرءَ قولها حسُنت عند الناس وأحسنوا إليه ، وإن أساء قولها ساءت عند الناس وأساءوا إليه . فأحسِن إلى نفسك تَسْلَم من الأذى وتحفظ لك كرامتك ، وتعصمك وِزرَ الآثام والدخول في معارك نهايتها الخسران ، وفي الحديث الصحيح ” المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ” . هذا وبالله التوفيق .