الصحوة – مهند بن الخطاب الهنائي
يتركز أغلب الإنتاج والاستهلاك للهيدروجين المشتق من الوقود الاحفوري حاليا في نفس الموقع الجغرافي، تحديدا ضمن العمليات الإنتاجية المرتبطة بمصانع الامونيا و معامل تكرير النفط. من المتوقع أن يصبح الطلب المستقبلي على الهيدروجين أكثر استدامة وتنوعًا مع توسع الاستخدامات لتشمل الصناعات الثقيلة والقطاعات الأخرى كالنقل والكهرباء. وبحكم أن طبيعة إنتاج الهيدروجين الأخضر تختلف من حيث المدخلات وطريقة الإنتاج لاعتمادها على الطاقة المتجددة التي في الغالب تتواجد مواردها في مناطق تختلف عن مواقع المناطق الصناعية والمستهلكة للهيدروجين ومشتقاته، ومن حيث الاقتصاديات والتشريعات المرتبطة به، وكذلك من حيث توسع الاستخدامات المتصورة لتشمل قطاعات متنوعة، فالمتوقع ازدياد التفاوت ما بين مواقع الإنتاج و مواقع الاستهلاك. وهذا من شأنه أن يفتح المجال لتطوير ممرات تجارية عالمية للهيدروجين الأخضر أو المنتجات المرتبطة به.
هناك حكومات عدة تخطط لاستيراد الهيدروجين الأخضر أو أحد المنتجات المرتبطة به من دول أخرى عبر المحيطات. فتواجه بعض الدول الصناعية تحديات مختلفة كعدم توفر المساحات الشاسعة، أو ازدياد كلفة الإنتاج النسبي، أو الحصول على التصاريح لربط مواقع الإنتاج بمواقع الاستهلاك، تلزمهم على النظر إلى استيراد الهيدروجين. فالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال يستهدف استيراد نصف الكميات الاجمالية المخطط لاستهلاكها من الهيدروجين الأخضر، وكذلك جمهورية كوريا واليابان وجمهورية سنغافورة لديهم مستهدفاتهم. وتتنافس موانئ هذه الدول على أن تكون بوابة لاستيراد ونقطة عبور للهيدروجين ومركز للصناعات المرتبطة به، من بين هذه الموانئ في الاتحاد الأوروبي: ميناءأمستردام ورورتدام في نيذلاندز، ميناء إنتويرب في مملكة بلجيكا، وميناء روستوك في جمهورية ألمانيا. تحظى سلطنة عمان بعلاقات متينة وراسخة مع العديد من هذه الدول كمملكة بلجيكا، ومملكة نيذرلاندز، وجمهورية ألمانيا، وجمهورية سنغافورة، وجمهورية كوريا، واليابان. وكما تعزز زيارة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله – إلى مملكة بلجيكا، وقبل ذلك إلى جمهورية سنغافورة وجمهورية ألمانيا، من التعاون الثنائي بين سلطنة عمان وهذه الدول، بما يسهم في فتح فرص استثمارية مشتركة في مجالات عدة ولاسيما في مجال التحول في الطاقة والهيدروجين.
وضعت الحكومات المختلفة تشريعات تدفع القطاعات المختلفة نحو التحول في الطاقة وخفض الانبعاثات الكربونية. فيخطط الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال إلى تفعيل الآلية الحدودية لضبط الكربون بنظامها النهائي في عام 2026 لسلع محددة وهي: الحديد، والاسمنت، والاسمدة، والهيدروجين، والألومنيوم، والكهرباء بالتوازي مع التخلص التدريجي من الأرصدة التابعة لنظام تداول الانبعاثات المعمول به. الاطار التشريعي الصادر من الاتحاد الأوروبي للطاقة المتجددة كذلك يستهدف أن تكون حصة الهيدروجين الأخضر من مجمل استهلاك الهيدروجين في القطاع الصناعي 42% و1% من مجمل الطاقة المستهلكة في قطاع النقل كحد أدنى في عام 2030، وعلى دول الأعضاء وضع خارطة طريق للقطاعات المختلفة واعداد الخطط التحفيزية. عوضا عن ذلك اطلق عدد من دول أعضاء الاتحاد الأوروبي كألمانيا نظم محلية للتبادل الكربوني كحل مكمل للنظام المتبع في الاتحاد الأوروبي لرفع أسعار الكربون; وقد تُفرض غرامات إضافية في المستقبل على المعتمدين على الهيدروجين التقليدي. وفي اليابان، من المتوقع أن تفرض الحكومة ابتداءً من عام 2026 على الصناعات المحلية ذات الانبعاثات الكربونية العالية سقف أعلى للرصيد كربوني وغرامات مالية في حال تجاوزت الحدود المسموح بها من خلال نظام تداول الانبعاثات المحلي.
ولا يقتصر الامر على وضع مستهدفات وإدخال أسواق للكربون، ولكن أيضا وضعت هذه الحكومات حوافز مادية لمنتجي الهيدروجين الأخضر ولتطوير البنية التحتية المشتركة. فعلى سبيل المثال، اطلق الاتحاد الأوروبي بنك الهيدروجين، ومنصة لدعم سوق الهيدروجين الأخضر من خلال طرح المزايدات العامة المزدوجة، وصندوق الابتكار الأوروبي. وكذلك قامت الحكومة الألمانية بالإعلان عن تطوير 9 ألاف كيلومتر من خطوط الانابيب الهيدروجين بحلول عام 2032 بقيمة مجملة تصل إلى 19 مليار يورو. وكذلك، قامت جمهورية كوريا واليابان بطرح مناقصات تدعم فارق التكلفة ما بين الوقود الاحفوري والهيدروجين النظيف. هذا من شأنه رفع بالمجمل الرغبة الشرائية للهيدروجين الأخضر ;
وبدأ بالفعل ازدياد أعداد مشاريع الهيدروجين الأخضر تحت الانشاء وكميات الإنتاج بشكل تدريجي. فمن ضمن المشاريع قيد الانشاء: مشروع ستيجرا في بودن، السويد لإنتاج الحديد الأخضر بسعة 700 ميجاواط للمحلل الكهربائي، ومشروع هولاند هايدروجين في روترودام بسعة 200 ميجاواط للمحلل الكهربائي، ومشروع نيوم في المملكة العربية السعودية بسعة إنتاجية تزيد عن 200 ألف طن سنويا من الهيدروجين الأخضر ، ومشروع مينتال في الصين للأمونيا الخضراء بسعة إنتاجية تصل إلى 650 ألف طن في السنة، وغيرها. تسهم هذه المشاريع الرائدة في تراكم المعرفة وخفض الكلفة الإنتاجية كلما زادت. وستظل هذه الأدوات الداعمة مؤثرة بشكل كبير على تحديد سرعة تطور اقتصاد الهيدروجين الأخضر في السنوات القادمة. هذا إلى جانب عوامل أخرى سواءً كانت تكنو-اقتصادية كتطور التقنيات المرتبطة بإنتاج الهيدروجين الأخضر وانخفاض تكاليف إنتاج الطاقة المتجددة، أو مؤثرات أخرى عالمية تؤدي إلى البحث عن حلول بديلة لتعزيز أمن الطاقة وتنويع أسواقها- كأثر حادثة فوكوشيما، اليابان أو حرب روسيا وأوكرانيا.
ظهر من خلال هذه العوامل دور مُجّمعي الهيدروجين (Aggregators)، حيث تقوم هذه الجهات بربط المنتجين بالأسواق النهائية للهيدروجين الأخضر، ومن الممكن أن تكون هذه الجهات عامة أو خاصة. تسهل هذه الجهات عمليات التعاقد، وربط المطور بالمشتري استكمالا لسلسلة التوريد، والشراكة مع مقدمي الخدمات اللوجستية والموانئ، وتأمين اتفاقيات شراء طويلة الأجل. فتقوم هذه الجهة بتلبية الطلب من عدة قطاعات تشمل: مراكز البيانات، ومعامل تكرير النفط، ومصانع الحديد، والاسمدة، والنقل، وشبكات نقل الغاز، وأشباه الموصلات، ووقود الطيران المستدام. فقد يكون لدى عدد من المشغلين الرغبة في الاستفادة من الهيدروجين الأخضر بكميات محدودة، و بالمجمل يصل الطلب إلى أحجام تجارية. على سبيل المثال، تعمل شركة الطاقة الألمانية EnBW وشركة الغاز VNGعلى مركزة أنفسهما كمجّمعي للطلب على الهيدروجين الأخضر داخل الاتحاد الأوروبي. حيث تقوم الشركتين بالدخول في مفاوضات مع القطاعات المهتمة بالهيدروجين الأخضر، وتحديد أسواق الهيدروجين ومشتقاته في الموانئ كأمستردام وروتردام في نيذرلاندز وروستوك في جمهورية ألمانيا، والمناطق الصناعية الداخلية في الاتحاد الأوروبي. ويُكمل هذا النهج على سبيل المثال الاشتراطات التي وضعتها هيئة حكومة نيذرلاندز للمستهلكين والأسواق (ACM) والتي الزمت مشغلي محطات الاستيراد والتخزين المستقبلية في الموانئ بتوفير خدماتهم للطرف الثالث.
وفي جمهورية كوريا تخطط كذلك وزارة التجارة والصناعة والطاقة على تطوير مجمعات صناعية للهيدروجين في ثلاثة مدن ساحلية وهي: سامتشيوك، ودونجهاي، وبوهانج، حيث ستسهم هذه المجمعات بتنظيم قطاع الهيدروجين محليا، وتوسيع الطلب الكلي من خلال اتباع النهج المركزي، استيفاءً للحاجة إلى بنية تحتية مشتركة لتسهيل عمليات الاستيراد والإنتاج والتخزين و النقل، إلى جانب تشجيع الشركات ذات الصلة بنقل عملياتها إلى هذه المجمعات وتطوير المشاريع التجريبية والتجارية. وكذلك تقوم وزارة الطاقة والتجارة والصناعة في اليابان من خلال قانون “تعزيز مجتمع الهيدروجين” على تطوير مجمعات صناعية معتمدة على الهيدروجين، ومن المتوقع أن تختار الحكومة ما بين ثمانية إلى عشرة مجمعات صناعية خلال العقد المقبل، مع التركيز، على وجه الخصوص، على ثلاث مجمعات كبيرة الحجم في الموانئ الأساسية وخمس مجمعات أخرى متوسطة الحجم في المواقع الإقليمية في جميع أنحاء اليابان.
وتقوم وزارة الطاقة والمعادن وشركة هيدروجين عمان (هايدروم) بالتعاون مع المُجِّمع والموانئ في مناطق مختلفة حول العالم لتسهيل ربط مطوري الهيدروجين الأخضر محليا بالأسواق النهائية. حيث تعمل الوزارة و هايدروم على سبيل المثال مع شركائها EnBW وميناء أمستردام من جهة وميناء سنغافورة من جهة أخرى لدراسة احتياجات السوق الأوروبي والاسيوي للهيدروجين، وأفضل الطرق لنقل الهيدروجين أو أحد مشتقاته، وتأثير التشريعات والخطط الداعمة على أسواق الهيدروجين، ومدى الاستعداد الشرائي للهيدروجين في القطاعات والشركات المختلفة، وتحديد نطاق القدرة الشرائية القصوى للأسواق واستيعاب كميات الطلب. وكذلك تقوم هايدروم بربط مطوري الهيدروجين الأخضر في سلطنة عمان بهذه الجهات لتسهيل عمليات التفاوض والتعاقد والمضي قدما في الوصول للمبتغى وهو تحقيق القرار الاستثمار النهائي من قبل المطورين في السلطنة. وتدرس الوزارة كذلك الفرص الاستثمارية للأنواع المختلفة من الهيدروجين النظيف، منها الجيولوجي (الطبيعي) والازرق، والإمكانات المتعلقة بتطوير سلاسل الامداد سواءً كانت محلية أو عالمية. الفرصة متاحة أيضا لدخول الشركات العمانية لتطوير شراكات استراتيجية لتحقيق التكامل العامودي لسلسلة القيمة للهيدروجين وتسهيل الوصول إلى المشتري النهائي.