الصحوة – ناصر بن محمد الحامدي
تُشكِّل الثقافة والعقيدة محورين أساسيين في تشكيل الهوية الإنسانية الفردية والجماعية، لكن العلاقة بينهما تظل علاقة إشكالية، تتأرجح بين الانسجام والتناقض، والتأثير والتأثُّر، فالثقافة، بوصفها نسيجًا من العادات، والتقاليد، والفنون، والرموز، والقيم المشتركة، تُعبِّر عن “كيف” يعيش الإنسان، بينما العقيدة، كنظام من المعتقدات المطلقة حول الوجود والغاية، تُجيب عن “لماذا” يعيش الإنسان، هذان البُعدان يلتقيان في صميم التجربة الإنسانية، لكنهما قد يتصادمان أيضًا عند حدود تفسير العالم وتوجيه السلوك.
في مراحلها الأولى، غالبًا ما تنبثق الثقافة من رحم العقيدة ،فالدين، كأحد أبرز تجليات العقيدة، كان دائمًا مُنْتِجًا للرموز الثقافية الطقوس تحوَّلت إلى أعياد وفنون، والقصص المقدسة أصبحت أدبًا وأساطير، والأخلاق الدينية تحوَّلت إلى قوانين اجتماعية، هنا، تظهر الثقافة كـ “لغة” تُترجم المُجرَّد العقائدي إلى ممارسات ملموسة، فالمساجد في العمارة الإسلامية،أو الأيقونات في المسيحية الأرثوذكسية، ليست مجرد أماكن عبادة، بل شواهد على حوار بين المطلق (العقيدة) والنسبي (الثقافة).
لكن الثقافة لا تبقى مجرد تابعة؛ فمع تعاقب الأجيال، بدأت في تطوير منطقها الخاص الذي قد يُعيد تفسير العقيدة أو حتى تحديها، على سبيل المثال، الثقافة الصوفية في الإسلام حوَّلت مفاهيم الزهد والاتصال بالله إلى شعر وموسيقى (كالمولوية)، مُضيفة أبعادًا وجدانية قد تتعارض مع التفسيرات الحرفية للنصوص، هذا التفاعل يُظهر أن الثقافة ليست حاملة سلبية للعقيدة، بل فاعلة في إنتاج معانيها.
تتحوَّل الجدلية بين الثقافة والعقيدة إلى صراع عندما يُسقِط أحد الطرفين هيمنته على الآخر، فالعقيدة، حين تتحوَّل إلى أيديولوجيا مغلقة، قد تسعى إلى قولبة الثقافة في إطار ثابت، مُتجاهلة أن الثقافة بطبيعتها متغيرة وتعددية،هذا ما حدث في فترات تاريخية مثل محاكم التفتيش الكاثوليكية، حيث سُحقت التعبيرات الثقافية المُخالفة تحت ذريعة حماية العقيدة، بالمقابل، قد ترفض الثقافة المدنية الحديثة أيَّ مرجعية خارجية (كالدين)، فتُحوِّل قيمًا مثل الفردية والاستهلاك إلى “عقائد جديدة”، تُقدَّس بلا نقاش.
هذا الصدام يُظهر إشكالية “التقديس” فالعقيدة ترفض أن تُختزل إلى منتج ثقافي (نسبي)، بينما الثقافة ترفض أن تكون مجرد خادمة للمطلق، لكن الحل لا يكمن في الفصل بينهما، لأن الإنسان- بحسب الفيلسوف بول ريكور- “كائن رمزي” لا يستطيع العيش دون سرديات كبرى (عقائد) تُعطيه المعنى، ولا يستطيع تجسيد هذا المعنى دون ثقافة.
التاريخ يُظهر أن أكثر الحضارات ثراءً هي تلك التي سمحت بحوار خلاق بين الثقافة والعقيدة،ففي العصر الذهبي الإسلامي، لم تكن الفلسفة اليونانية تهديدًا للعقيدة، بل مادة لتفاعل أنتج علم الكلام وعقلنة التفسير الديني، كذلك، النهضة الأوروبية استعادت التراث الكلاسيكي (ثقافة) دون قطيعة مع المسيحية (عقيدة)، مما أفرز فنونًا وعلومًا جمعت بين الجمالي والمقدس.
هذا التفاعل يشترط أمرين مهمين:
1.اعتراف العقيدة بحدودها التعبيرية فالنصوص المقدسة، وإن كانت تدعي الحقيقة المطلقة، تُفسَّر دومًا عبر عدسة الثقافة المحلية (اللغة، العادات، التاريخ).
2.اعتراف الثقافة باحتياجها للمعنى فحتى أكثر الثقافات مدنية تخلق “أديانًا بديلة” (كالفن أو التكنولوجيا) لملء الفراغ الوجودي.
إذن،فالثقافة والعقيدة وجهان لعملة واحدة،التي
لا تكتمل إلا بهما معًا، فبدون العقيدة، تصير الثقافة فوضى من القيم النسبية المتصارعة، وبدون الثقافة، تصير العقيدة شعارات مجردة بلا جذور في الواقع، الجدلية بينهما ليست مشكلة يجب حلها، بل مصدر للإبداع المستمر، شرط أن يبقى الحوار مفتوحًا ثقافة تطرح الأسئلة، وعقيدة تُغذي الإجابات، في دائرة من البحث عن المعنى الذي لا ينتهي.