الصحوة – ناصر بن محمد الحامدي
في رحلتي الأخيرة إلى نزوى العريقة، شعرت أنني لا أزور مدينة فحسب، بل أعيش لحظات من التاريخ العماني الأصيل، وأتنقل بين ملامح حضارة ضاربة بجذورها في أعماق الزمن،تقع نزوى في قلب سلطنة عمان، وتعد من أقدم المدن وأهمها من الناحية التاريخية والثقافية، إذ كانت في الماضي عاصمة لعمان، وموطنًا للعلم والعلماء، ومركزًا تجاريًا مزدهرًا.
حين تبدأ رحلتك إلى نزوى، تشعر وكأنك تعود إلى زمن تتشابك فيه الحكمة والشجاعة، وتتنفس فيه عبق التاريخ العماني المهيب، نزوى، مدينة العلم والعلماء، والحصون والأسواق، تستقبلك بصمتها الوقور وأصالتها الممتدة عبر قرون، ولا تزال حتى اليوم تحتفظ بمكانتها كواحدة من أهم وجهات السياحة الثقافية والتراثية في سلطنة عمان.
ما إن وطئت قدماي أرض نزوى حتى استقبلتني قلعة نزوى الشهيرة، تلك القلعة المهيبة التي تعكس فنون العمارة الدفاعية القديمة، وتروي جدرانها قصص الصمود والمقاومة،
أول ما يأسرك في القلعة الشهيرة، التي شُيّدت في القرن السابع عشر، وتُعدّ من أبرز معالم العمارة الدفاعية العُمانية، بُنيت بسور دائري ضخم ونوافذ للمراقبة، وشهدت مراحل عديدة من التاريخ العُماني الحافل، بجوارها، ينبض سوق نزوى التقليدي بالحياة، حيث يمتزج صوت الباعة بروائح البخور ، وتُعرض المصنوعات اليدوية كالخناجر والمشغولات الفضية والمنتجات الزراعية المحلية،
كذلك، تتناثر الأكشاك التي تبيع المنتجات الحرفية من الفضيات والخناجر والبخور والتمور، وتفوح رائحة التاريخ من كل زاوية.
لكن جمال نزوى لا يقتصر على المدينة وحدها، بل يمتد إلى ما حولها من قرى ومدن كـ”بركة الموز”، و”تنوف”، و”الغنتق”، و”سيق”، وغيرها من الأماكن التي تميزت بوفرة المياه، والمزارع الخضراء، والمناظر الطبيعية التي تأسر القلوب.
ويستمر سحر الرحلة، حيث
لا يتوقف عند حدود نزوى،
بل يمتد إلى جوارها، حيث مدن وقرى تحتفظ بهويتها العمانية الأصلية، وتقدم لوحة متكاملة من الجمال الطبيعي والتاريخي.
الحمراء، مدينة نسيج من الطين والذاكرة، تقع على مقربة من نزوى، وتُعدّ من أقدم المدن العُمانية التي
لا تزال تحافظ على طابعها المعماري التقليدي، بلدة الحمراء القديمة، بمنزلها الشهير “بيت الصفاة”، تقدم مشهدًا معماريًا رائعًا لمنازل الطين متعددة الطوابق، المبنية بأسلوب يُظهر البراعة والذكاء في الاستفادة من المناخ والتضاريس، ومن قلب الحمراء، يمكن التوجه نحو جبل شمس، أعلى قمة في عُمان، حيث يمكن للزائر أن يستمتع بإطلالات بانورامية مدهشة على وادي غول، الذي يُعرف بـ”جراند كانيون عمان” المكان مثالي لعشّاق الطبيعة والتصوير والتأمل.
بُهلاء، مدينة الأساطير والعبق الروحي لا يمكن المرور بجوار نزوى دون التوقف عند مدينة بهلاء التاريخية، المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، تشتهر قلعة بهلاء بأنها من أقدم وأكبر القلاع في عمان، ويحيط بها سور طويل يمتد لأكثر من 12 كيلومترًا، كانت تحيط بالمدينة القديمة بكاملها.
بهلاء أيضًا معروفة بحرفييها المهرة، لا سيما في صناعة الفخار، حيث تُعدّ من المراكز القليلة التي لا تزال تحافظ على هذا الفن العريق بأسلوبه التقليدي.
تأسرك الطبيعة الجميلة، والتراث العريق… ولكن أين الظلال بجانبي الطرقات؟
برغم كل هذا الجمال، ثمة تفصيل بسيط قد يغيب عن أعين الزائرين لكنه يلفت انتباه من يتأمل بعين الناقد المحب؛ وهو قلة التشجير حول الطرقات، فبينما تزخر المنطقة بالأفلاج والبساتين داخل القرى، فإن الطرق المؤدية إلى هذه الأماكن تفتقر إلى المساحات الخضراء أو الظلال التي تخفف من حرارة الشمس وتضيف لمسة بصرية ساحرة، التشجير لا يضفي جمالاً فحسب، بل يسهم أيضًا في التوازن البيئي وتقليل الغبار وتحسين جودة الهواء، أدرك تمامًا أن الجهود المبذولة في حفظ تراث نزوى وتطوير بنيتها التحتية واضحة وملموسة، لكن إدخال عنصر التشجير المدروس على جنبات الطرق، خصوصًا بالأنواع المحلية التي تتحمل الجفاف، يمكن أن يحوّل تجربة الزائر من جيدة إلى استثنائية.
إن إضافة التشجير المدروس باستخدام الشجر الكويتي أو النباتات المحلية مثل أشجار الغاف، السدر، والسمر، لا يعزز فقط من جمالية المكان، بل يسهم في مكافحة التصحر، وتلطيف الجو، ويخلق بيئة أكثر راحة للزوار والمقيمين على حدٍ سواء، هذه الخطوة البسيطة يمكن أن تُحدث أثرًا بصريًا ومعنويًا كبيرًا، وتجعل من تجربة الزيارة أكثر إشباعًا للحواس.
وختاماً، بين الماضي والحاضر والمستقبل، تزخر نزوى، وبهلاء، والحمراء بكنوز لا تُقدّر بثمن، من التاريخ والهوية العمانية الأصيلة، وهي مناطق تستحق أن تُروى عنها القصص، وأن تُسجّل في ذاكرة الزائرين بكل تفاصيلها، وبين الحصون والأسواق، والمزارع والأفلاج، يبقى الأمل أن تُعانق هذه المدن ظلال الأشجار، لتكتمل لوحة الجمال، وتنسجم روح التراث مع نبض الطبيعة، ولن يكتمل سحرها إلا عندما تحتضن طرقاتها ظلال الأشجار، لتجمع بين أصالة الماضي وراحة ومتعة الحاضر.