الصحوة – ناصر بن محمد الحامدي
في عصر لاتُقاس فيه الأمم بمساحة أراضيها ولا بعدد سكانها، بل بما تملكه من معرفة وقدرتها على توليدها وتوظيفها، تصبح مسألة “خلق مجتمع معرفي” ليست ترفاً فكرياً، بل حاجة وجودية، ومهمة فلسفية تستدعي الغوص في الجذور: ما هو المجتمع؟ ما هي المعرفة؟ وما معنى “الخلق” في سياق اجتماعي وثقافي؟
ليست المعرفة كماً من المعلومات أو ركاماً من الحقائق المخزونة في الكتب أو محركات البحث، إنها منظومة ديناميكية تتطلب عقلًا ناقدًا، وسؤالًا مستمرًا، وشكًا مُنتجًا، المعرفة في أصلها ليست ما نعرفه، بل كيف نعرفه؟!، ولماذا نصدقه؟!، وماذا نفعل به؟! فالمجتمع المعرفي لا يُقاس بعدد الجامعات أو المؤلفات فحسب، بل بقدرة أفراده على إنتاج المعرفة، وتحليلها، وإعادة توظيفها لحل مشكلاتهم الواقعية والمعنوية.
يُفهم المجتمع في الفلسفة الاجتماعية الحديثة بوصفه كياناً عضوياً، قادراً على التعلم الجماعي، وعلى تعديل سلوكياته وقيمه ومؤسساته وفقًا لتجربته المعرفية، لذا فخلق مجتمع معرفي لا يعني فقط تمكين الأفراد من التعلم، بل بناء منظومة اجتماعية تكرّس التعلم كأسلوب حياة: من الإعلام، إلى المدارس، إلى الأسر، إلى الخطاب الديني والثقافي.
يُفترض في المشروع المعرفي أن يتحول من نقل المعرفة إلى خلقها، والخلق هنا لا يعني بالضرورة “الاختراع” بمفهومه الصناعي، بل يعني،القدرة على التساؤل الخلّاق
وإنتاج مفاهيم جديدة تفسر واقعنا بدلاً من استيراد مفاهيم غير محلية،
كذلك ربط المعرفة بالسياق المحلي، أي بناء فهمنا الخاص للعالم من خلال لغتنا وثقافتنا وتجربتنا التاريخية،ولعل هذا ما يُميز المجتمعات المعرفية عن المجتمعات المستهلكة للمعرفة،الأولى تُنتج المفهوم، والثانية تُقلده.
إن بناء مجتمع معرفي يتطلب استثماراً عميقاً في الأدوات التالية:
1.حرية التفكير: لا يمكن للمعرفة أن تنمو في بيئة خائفة أو مُراقبة.
2.نقد المؤسسات: المؤسسات التعليمية والثقافية والدينية يجب أن تكون محلّ مساءلة، لا موضع قداسة.
3.محو الأمية الفلسفية: من دون منهج تفكير فلسفي، يبقى العلم مهدداً بالخرافة، والتعليم مهدداً بالتلقين.
4.العدالة المعرفية: أن تتاح فرص المعرفة للجميع دون احتكار طبقي أو مناطقي أو أيديولوجي.
فلسفياً، نطرح سؤال الغاية:
لماذا نريد مجتمعاً معرفياً؟
الجواب لا يجب أن يكون فقط لأجل التنمية أو الرفاه المادي، بل لأجل تحرير الإنسان،فالمجتمع المعرفي هو مجتمع يَمنح أفراده القدرة على فهم ذواتهم والعالم، واتخاذ قرارات حرة واعية، وتحقيق وجودهم ككائنات تسعى لا للحقيقة فحسب، بل للمعنى أيضًا.
وأخيراً:إن خلق مجتمع معرفي ليس مشروع دولة فقط، بل مشروع وجود، في عالم متسارع في التغيير، إننا لا نكون بشريين تماماً إلا عندما نعرف، ونفكر، ونُبدع، ونختلف، ونتساءل،المجتمع المعرفي هو الشكل الأعلى من الاجتماع البشري، لأنه يحقق أعظم خصائص الإنسان، العقل، والحرية، والمعنى.