الصحوة – نبراء بنت حمد الكيومية
في عصر تتسارع فيه الصور وتتراكم فيه الأحداث، تبقى الكتابة ملاذًا صامتًا ومتنفسًا عميقًا يلجأ إليه الإنسان حين تضيق به السبل، ويعجز لسانه عن البوح، قد يظن البعض أن الكتابة مجرد مهارة أو وسيلة لنقل المعلومات، لكنها في جوهرها أعمق من ذلك بكثير، إذ تنبع من الروح وتصبّ في النفس، وتشكل مرآة حقيقية لما في دواخلنا فمتى نكتب؟ ولماذا؟
الكتابة ليست مجرد حروف تُنسج على ورق، بل هي طوق نجاة يتشبث به الإنسان في مواجهة عواصف الحياة، فحين يعلو الموج وتتقاذفه رياح الهموم، يجد في القلم مجدافًا يوصله إلى برّ السلام، في لحظات الألم والانكسار، تبرز “الكتابة التعبيرية” كأداة فعّالة في العلاج النفسي، حيث يُفرغ المرء مشاعره على الورق كما يُفرغ المسافر حقائبه الثقيلة في محطة انتظار، فيهدأ توتره ويستعيد شيئًا من اتزانه.
أما في مضمار تطوير الذات، فقد آمن كثير من العظماء بأهمية تسجيل الأفكار، فاحتفظوا بدفاتر ملاحظات تراكمت فيها بذور الإنجاز، تلك البذور التي نمت يومًا لتصير أشجارًا من اختراعات أو قرارات غيّرت مجرى التاريخ، وفي قاعات التعليم، نجد الطالب المجتهد يسابق قلمه لتدوين ما يسمعه، لأن ما يُكتب يُحفظ، وما يُراجع يُفهم، فتصبح الكتابة أداة للفهم قبل أن تكون وسيلة للحفظ، أشبه بعدسة تُركّز ضوء المعرفة في بؤرة الفهم العميق.
وحين تعصف الأزمات وتضيق الدنيا بما رحبت، يلجأ البعض إلى الكتابة باعتبارها نافذة للنجاة؛ فقد كتبت آن فرانك عن رعب الحرب في خبايا العزلة، فتحولت كلماتها لاحقًا إلى إرث إنساني خالد، يلامس القلوب ويدفع الأجيال للتأمل والصمود، هكذا تثبت الكتابة أنها ليست ترفًا، بل حاجة، ودواء، وبوابة نحو التغيير.
“الكتابة دواء، والورقة صديق لا يخون”؛ يرى العديد من الأفراد أن الكتابة متنفس حقيقي للتعبير عن مشاعرهم الداخلية التي قد يصعب عليهم البوح بها شفويًا، فهي مساحة آمنة للتأمل والتفريغ العاطفي دون خوف من حكم أو مقاطعة، في هذا السياق، تظهر الكتابة كوسيلة للتنفيس الذاتي، يهرب إليها الفرد حين تضيق به السبل أو حين تفيض المشاعر، كمثل انهيار ذاك السد بسبب ارتفاع منسوب المياه.
من جهة أخرى، يسعى بعض الكُتّاب إلى التأثير في الرأي العام أو إيصال رسائل فكرية أو اجتماعية أو سياسية، مستخدمين الكتابة كمنصة للتغيير المجتمعي أو للدفاع عن قضايا يؤمنون بها، كما تدفعهم الرغبة في ترك أثر أو بناء إرث فكري إلى الاستمرار في الكتابة، وتطوير أدواتهم التعبيرية كما يشحذ الحداد سيفه قبل كل معركة.
في المقابل، يكتب آخرون بدافع التوثيق، سواء كان ذلك لأحداث حياتهم الشخصية أو لوقائع تاريخية أو اجتماعية شهدوها “قيدوا العلم بالكتابة” — مقولة منسوبة للإمام علي بن أبي طالب، وتُظهر أهمية الكتابة في حفظ المعرفة من الضياع ، بالنسبة لهؤلاء، لا تكون الكتابة مجرد اختيار، بل ضرورة للحفاظ على الذاكرة، سواء كانت فردية تنبض بتجارب خاصة، أو جماعية تنبض بتاريخ شعوب.
ولا يمكن إغفال الجانب الإبداعي الذي يجذب كثيرين إلى الكتابة، حيث يجدون في انتقاء الكلمات وتكوين الصور الجمالية متعة فريدة من نوعها، تشبه رسم لوحة بالكلمات، تمكّنهم الكتابة من التعبير بلغة فنية تعكس رؤيتهم للعالم، وتسمح لهم بترجمة الأحاسيس إلى جمل تنبض بالحياة، هذا الشغف باللغة يدفعهم إلى الاستمرار في الكتابة، حتى دون انتظار مقابل، كما يغني الطائر في الفجر لا ليراه أحد، بل لأن الغناء فطرته.
وإلى جانب كل ذلك، تظهر الكتابة كوسيلة علاجية فعالة، إذ يؤكد عدد من الأطباء النفسيين أن الكتابة التعبيرية تساعد في التخفيف من التوتر والقلق، وتحسين الحالة النفسية بشكل عام، خاصة لدى من يعانون من صدمات أو ضغوط نفسية مستمرة، وكأن الكتابة تفتح نوافذ الضوء في غرف مظلمة داخل الروح.
في ظل هذه الدوافع المتنوعة، يتضح أن الكتابة ليست رفاهية فكرية، بل حاجة إنسانية متجذرة، متجددة، تتبدل أغراضها وأشكالها، لكنها تظل ثابتة في عمقها: وسيلة للبوح، أداة للفهم، وجسرًا يصل الإنسان بذاته والعالم من حوله، الكتابة ليست فعلًا عابرًا، بل شهادة على أن الإنسان، مهما تطورت أدواته، لا يزال بحاجة للكلمات كي يبقى.