الصحوة : نبراء حمد الكيومية
من حبر الحنين بدأت شريفة التوبي تكتب قلبها قبل الحروف، بدأت الكتابة مبكراً جداً، قبل أن تعرف قراءة الكتب، من خلال رسائل مليئة بالشوق والحنين إلى والدها ، ومن تلك اللحظة أدركت سحر الكلمة المكتوبة وأثرها في نفسها، وكيف تختصر المسافات وتصل إلى من تحب دون لقاء ، دعم والدها وإعجابه بأسلوبها زرع فيها الثقة، فآمنت بقدرتها على الكتابة، وأحبتها كما أحبت الكتب وعالم الكلمات دفعها ذلك إلى حب القراءة والحلم بأن تكتب كما يكتب كبار الكتّاب، فقرأت كثيراً، وتمنّت لو كانت مؤلفة لبعض الكتب التي قرأتها، لتجد في الكتابة ذاتها كما لم تجدها في أي شي آخر .
لم تكن فكرة كتابة الرواية حاضرة في البداية، فقد كتبت شريفة التوبي القصيدة والمقال والقصة، بينما ظل حلم الرواية مؤجلاً خوفاً أو حذراً، أو لأن الوقت لم يحن بعد ، وعندما جاء الوقت المناسب تجرأت وكتبت، فكانت روايتها الأولى سجين الزرقة، عملاً أدبياً جريئاً وحساساً يناقش قضية مغيّبة هي قضية اللقطاء، لم تتوقع النجاح الذي حققته الرواية، لتتبعها لاحقاً رواية البيرق في ثلاثة أجزاء، لا تشعر بالندم لعدم الكتابة الروائية المبكرة، فكل ما كتبته سابقاً كان تمريناً للنضج، ومع كل إصدار جديد تواصل التعلم واكتشاف قدرات لم تكن تعرفها، لأن الكتابة تصالحها مع نفسها والحياة ومن حولها.
“الكتابة لا تُؤمَر… بل تُولد من صدق الشعور ” لا يوجد شيء في قاموس الكتابة اسمه (التزام)، الكتابة في حد ذاتها حالة من التمرّد، ولن يكتب الكاتب حتى يكون حرّاً، ولن يكتب إلا ما يشعر به ويلامس شيء في نفسه، ولن يكتب حتى يؤمن بما هو كاتبه، ولأن الكاتب جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، لن يستطيع الانفصال، سيكتب عن مجتمعه وعن قضايا مجتمعه، وسينبش المدفون، وسيبحث عن المغيّب، ويسُظهر المسكوت عنه. ربما تكون تلك هي مسؤولية ذاتية بين الكاتب ونفسه، ومعظم الكتّاب إلا القليل منهم حين كتبوا لم يتجاوزوا حدود المكان الذي عاشوا فيه أو ولدوا فيه، لأن المكان الأول يظلّ مهيمناً في كتاباتهم، كثير من الأماكن عرفناها وأحببناها كما قرأناها في كتب من كتبوا عنها، قضايا مجتمعية، وتاريخ ربما ما كنّا سنعرفه لولا الأدب، الرواية نفسها هي الأقدر على نقل الصورة كاملة، والأصدق في وصف الأحداث وأن كانت متخيّلة، وفي رواياتي على سبيل المثال كتبت عن قضايا مجتمعية وتاريخ، وكنت حريصة على الكتابة في هذا الجانب، ومع ذلك تظل الكتابة حرية وليست الزاماً، وأن يكتب الكاتب عن بيئت ومجتمعه فذلك يأتي بشكل تلقائي وغير مخطط له.
“الكتابة رسالة أعيشها… لا وسيلة لمكسب ” تقول شريفة التوبي: لا توجد دوافع شخصية في الكتابة، بل يوجد إحساس معين تجاه ما أكتبه، علاقة بيني وبين الفكرة قبل أن أُحوّلها إلى حياة مكتوبة. الكتابة كما أراها عمل إنساني عظيم، يتخلّى فيه الكاتب عن دوافعه الشخصية ويتجرّد من كل القيود، لأنه يدرك أنه يقدّم رسالة يحرص على إيصالها، لا يرجو منها منّاً ولا شكوراً، ولا يبحث من خلالها عن عائد أو مكسب أو شهرة. وكلما تجرّد الكاتب وأخلص لهذا الفعل العظيم بدافع المحبّة الخالصة له، سينجح. بالنسبة لي، حين أكتب لا أفكّر في شيء سوى الفعل الذي أقوم به في تلك اللحظة، أندمج تماماً في ذلك العالم الذي أجده يتشكّل أمامي، وأنسى معه كل ما يحيط بي، لا يشغلني التفكير في أسباب ما أقوم به، يكفيني أني أعيش متعة لا أعيشها إلا وأنا أكتب، متعة ربما لا يعرفها ولا يعيشها سوى الكاتب.
“كتبي أبنائي … لكن سُعاد يبقى الأقرب”كل أعمالي قريبة إلى قلبي، وكل مرة أنتهي فيها من كتاب، أشعر أنه الأخير، وأنني لن أكتب بعده شيئاً ، كتبي كأبنائي، عشت مراحل حملها كجنين فكرة أو بذرة شعور في أعماقي، ثم مرحلة المخاض، والمراجعة، والتدقيق، وإعادة الكتابة، حتى لحظة الإصدار. وكل عمل أنجزته اشتغلت عليه بمحبة بالغة، ولكل كتاب خصوصيته، حتى وإن قيل إن صدور الكتاب يعلن موت المؤلف، لأنه يصبح من حق قارئه، ومع أنني أحب كل كتبي كما أحب أبنائي، يظل كتاب سُعاد الأقرب إلى روحي، فهو كتاب في أدب الرسائل، كتبت فيه عن تجربة خاصة ومؤلمة، إلى حد أنني لا أستطيع العودة إلى قراءته.
لكل عمل رسالته، ورسالتي الحقيقية – كما تقول الكاتبة شريفة التوبي – أن أترك أثراً في نفس القارئ، وأن أساهم ولو بشكل بسيط في التغيير نحو الأفضل، لكل منا رسالته في هذه الحياة، وفي كل كتاب أحرص أن أقدّم جديداً، دون تكرار أو إعادة تدوير لأفكار سابقة. ربما أكون قد تجاوزت مرحلة الحلم، لكنني ما زلت أعيش اللحظة، أكتب الفكرة، وأخلص للكتابة التي أحب، وهذا بحد ذاته كافٍ لأن أستمر.