الصحوة – أمل خلف الذهلية
شهدت العلاقات التجارية الدولية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تغيرات جذرية بسبب السياسات الحمائية الشرسة التي انتهجها، وكان أبرزها فرض رسوم جمركية موحدة بنسبة 10% على معظم واردات الولايات المتحدة، بما في ذلك من دول الخليج العربي، رغم وجود اتفاقيات تجارة حرة معها، ورغم أن هذه السياسات لم تكن موجهة مباشرة إلى السلطنة، إلا أن تأثيراتها امتدت بطرق متعددة وغير مباشرة إلى الاقتصاد العُماني، وأثارت تساؤلات استراتيجية حول مرونة النظام الاقتصادي الوطني وقدرته على مواجهة الصدمات الخارجية.
الرئيس ترامب مهتما جدا بالمراقبة الدقيقة لأسواق المال وتفاعلاتها مع قراراته، إلا أن هذه المراقبة لم تمنع الأسواق من الارتجاف نتيجة حرب الرسوم التي شنها ضد شركاء أمريكا التجاريين، حتى عند تأجيل فرض رسوم جديدة لمدة 90 يومًا، بقيت الأسواق، وخاصة سوق السندات السيادية الأمريكية، مضطربة، وتشير التقارير إلى أن معدل الفائدة الفعلية على السندات قفز إلى 5% في يوم واحد، ما تسبب في حالة ذعر دفعت ترامب للتراجع مؤقتًا.
وقد أثارت الرسوم الجمركية ردود فعل متباينة على الساحة الدولية؛ فقد عارضت معظم الدول الكبرى هذه السياسات، وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي والصين، حيث اعتبرتها إجراءات عدائية تُقوّض النظام التجاري العالمي القائم على قواعد منظمة التجارة العالمية، كما انتقدت دول مثل كندا والمكسيك هذه الرسوم رغم ارتباطها باتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة، وفرضت إجراءات مضادة. في المقابل، أبدت بعض الدول تفهماً أو قبولاً جزئيًا لهذه السياسات، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، حيث اختارت التفاوض الثنائي لتخفيف الآثار بدلاً من المواجهة المباشرة، بينما حصلت أستراليا على استثناء جزئي من بعض الرسوم بعد محادثات دبلوماسية مكثفة.
بالنسبة لعُمان فإن هذا تأثير الرسوم سيكون محدودًا؛ لأن معظم صادراتها لأمريكا تشمل الطاقة التي تُستثنى من الرسوم، ورغم استمرار اتفاقية التجارة الحرة بين عمان وأمريكا، إلا أن الإجراءات الإدارية الجمركية الجديدة التي تبنّتها واشنطن شملت زيادة التدقيق في شهادات المنشأ، وتأخير الشحنات، ما أدى إلى ارتفاع كلفة التصدير لبعض الشركات العُمانية، خاصة في الصناعات البتروكيميائية والمعادن.
ومن المفارقات أن بعض الدول التي تستورد من الولايات المتحدة أكثر مما تُصدّر إليها – مثل أستراليا والإمارات – لم تُستثن من الرسوم، هذا يكشف أن النهج الأمريكي لم يكن يستند إلى أسس تجارية منطقية، بل إلى مناورات سياسية ومقامرات اقتصادية قصيرة النظر، كما وصفها عدد من الخبراء، وفي ظل هذا الوضع، تراجعت الثقة العالمية في النظام التجاري الأمريكي، وبدأ كثير من الدول، ومنها السلطنة، في إعادة النظر في شراكاتها الاستراتيجية.
فالاضطراب في العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين خلق بيئة غير مستقرة للاقتصادات الصغيرة والمتوسطة، ورفعت الصين الرسوم على الواردات الأمريكية حتى وصلت إلى 125%، وتسبب ذلك تحوّلات كبيرة في سلاسل التوريد، والذي أثّر على الشركات العُمانية خاصة التي تعتمد على المواد الخام أو التقنية القادمة من أحد الطرفين، كما أدى تخبط الإدارة الأمريكية، والتعديلات المتكررة على الرسوم المفروضة، إلى تراجع مصداقية الولايات المتحدة كقوة اقتصادية موثوقة، وهو ما انعكس بشكل غير مباشر على شركائها في صورة توتر في العلاقات الاقتصادية وضعف في التوقعات المستقبلية.
هذه الأزمة كشفت أهمية تنويع الشركاء التجاريين وتوسيع قاعدة الصادرات، سلطنة عُمان بدأت بالفعل في تنفيذ استراتيجيات بديلة من خلال تعزيز علاقتها بالصين، والهند، والأسواق الإفريقية، وتطوير الموانئ مثل ميناء الدقم كمركز لوجستي بديل لتقلبات الأسواق الغربية، كما تدفع “رؤية عُمان 2040” نحو تنمية قطاعات غير نفطية مثل التعدين، والسياحة، والاقتصاد الرقمي، وهو ما يجعل السلطنة أكثر قدرة على مواجهة الأزمات التجارية العالمية دون الاعتماد الحصري على شريك واحد مثل الولايات المتحدة.
وبذلت سلطنة عُمان جهودًا كبيرة لدمج نفسها في سلاسل التوريد العالمية، مستفيدة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط بين آسيا من جهة الشرق وأفريقيا والغرب من جهة أخرى، كما أن تحقيق التكامل الإقليمي بين دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية يُعد ركيزة أساسية لتنفيذ مشروعات مشتركة، مثل “قطار الاتحاد” وغيره من المبادرات التي تسهم في تعزيز الربط اللوجستي وشبكات النقل داخل المنطقة.
من هنا، يتضح أن تجربة الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب أن أي اضطراب في السياسات الاقتصادية لقوة عظمى كأمريكا قد يؤدي إلى آثار غير مباشرة، ولكن عميقة على الدول النامية، إلا أن هذه التجربة شكّلت أيضًا فرصة استراتيجية لتصحيح المسار، وبناء اقتصاد متنوع وقادر على مواجهة التحديات بثقة واستقلالية، وفي ظل التغير المستمر في العلاقات الدولية، لا بد من عُمان أن تظل مرنة، منفتحة، ومبنية على أسس اقتصادية داخلية قوية، قادرة على الصمود في وجه أية “حرب تجارية” عالمية، وهذه الأحداث تُعد إنذارًا مبكرًا يدعو إلى إعادة تقييم التبعية الاقتصادية، وتنويع الشراكات التجارية، وبناء أسس اقتصادية أكثر مرونة واستقلالًا، وإن قراءة التحولات الاقتصادية العالمية بوعي، والتحرك الاستباقي بدلًا من ردود الفعل، بات ضرورة لا خيارًا، وفي هذا السياق، تشكل التحديات فرصة حقيقية لصياغة نموذج تنموي قادر على الصمود أمام أزمات المستقبل، بعيدًا عن رهانات القوى الكبرى وتقلباتها.