الصحوة – علي عمر سالم الحداد
تشهد منطقة الخليج العربي حراكًا سياسيًا واقتصاديًا متسارعًا يتقاطع مع تحولات كبرى في بنية النظام الدولي، حيث لم تعد العلاقات تُدار بمنطق الهيمنة أو الاستقطاب الثنائي، بل بمنطق التعددية والتنافس البراغماتي على الشراكات والمصالح. وفي هذا الإطار، تكتسب الزيارة المرتقبة لدونالد ترامب إلى عدد من دول الخليج – وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر – أهمية تتجاوز أبعادها البروتوكولية إلى آفاق استراتيجية أوسع، تضع الخليج في صدارة الحسابات الدولية.
المنطقة لم تعد مجرد مسرح للتفاعلات الدولية، بل أصبحت فاعلًا محوريًا في تشكيل ملامح المرحلة المقبلة، خاصة في ظل امتلاكها لأدوات اقتصادية، وقدرات سياسية، وطموحات تنموية تُدار بعقل استراتيجي واعٍ. ومن هذا المنطلق، فإن زيارة ترامب تأتي في توقيت بالغ الدقة، حاملة رسائل متعددة تتقاطع فيها ملفات السياسة والأمن والاقتصاد، وربما الرمزية التاريخية أيضًا.
يُتوقع أن تركز الزيارة على إعادة طرح تصور محدّث لخطة السلام في الشرق الأوسط، انطلاقًا مما عُرف سابقًا بـ”صفقة القرن”، لكن بروح جديدة أكثر توافقًا مع الوقائع الجيوسياسية المتغيرة، وبتوجه يربط الاستقرار بالازدهار، والسلام بالشراكة الاقتصادية، لا بالوعود السياسية المجردة.
الشق الاقتصادي يمثل بعدًا رئيسيًا في هذه الجولة، لا سيما في ضوء الأرقام المتداولة حول استثمارات خليجية هائلة تُضخ في قطاعات حيوية تشمل الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، الأمن السيبراني، الصناعات الدفاعية، والفضاء.
وتبرز قطر كواحدة من الدول الخليجية الأكثر انفتاحًا على الابتكار والتقنيات المستقبلية، وتُعد محط أنظار كبرى الشركات الأميركية، وهو ما يعكس حضورها المحوري في خريطة الزيارة.
علاوة على ذلك، هناك مشاريع استراتيجية يُنتظر الإعلان عنها، من بينها شراكات عقارية كبرى وتحالفات في مجال الطاقة وتكنولوجيا البنية التحتية، بما يعكس تحوّل العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج من علاقات أمنية تقليدية إلى علاقات قائمة على تنمية مشتركة واستثمار طويل الأمد في مستقبل المنطقة والعالم.
أما في الجانب الرمزي، فقد أثارت بعض التقارير الإعلامية احتمال أن تعلن الولايات المتحدة رسميًا اعتماد تسمية “الخليج العربي” بدلاً من “الخليج الفارسي”، وهو ما سيكون له وقع سياسي وثقافي واسع، لكونه يعكس اصطفافًا معنويًا في الخطاب الأميركي، ويترجم تحولات الموقف في العمق الاستراتيجي الأميركي تجاه الإقليم.
ومع بروز مؤشرات على انحسار التوتر مع إيران، تلوح فرص جديدة لإعادة صياغة التوازن الأمني في الشرق الأوسط ضمن أطر أكثر استقرارًا وتعاونًا، سواء عبر تحالفات دفاعية مرنة أو من خلال هندسة أمنية إقليمية تشمل الأطراف الفاعلة ضمن رؤية شاملة تتجاوز الانفعال اللحظي إلى منطق الاستقرار المستدام.
إن دول الخليج اليوم لم تعد مجرد ساحات تستقبل المبادرات، بل أصبحت تصوغها وتعيد توجيهها وفق رؤى وطنية عميقة، تنطلق من خصوصية المكان، ومن إدراكها لدورها في المعادلات الدولية الجديدة. ومع صعود فاعلين دوليين جدد مثل الصين وروسيا، وتراجع نسبي في قبضة الأحادية الغربية، تتجه المنطقة نحو نظام إقليمي أكثر استقلالية، متعدد المحاور، تحكمه البراغماتية وتحرّكه المصالح العقلانية.
في هذا السياق، يمكن قراءة زيارة ترامب ليس فقط كمحاولة لإعادة التموضع الأميركي في الإقليم، بل أيضًا كاختبار لقدرة الخليج على توجيه الشراكات وفق أولوياته الذاتية، وبناء تحالفات مرنة تخدم استقراره وتنميته على المدى البعيد.
الخليج اليوم ليس مجرد رقم في حسابات الآخرين، بل مركز ثقل آخذ في الصعود، وعقل جيوسياسي جديد يتعامل مع العالم بمنطق الريادة لا التبعية، وبحكمة الدولة لا بعواطف المرحلة. من هنا، فإن أي زيارة من هذا النوع ليست نهاية المشهد، بل بداية لصفحة جديدة يُعاد فيها تعريف العلاقات والمصالح، ويُعاد فيها بناء الشرق الأوسط بعقلانية جديدة، تليق بطموحات شعوبه، وقدرات دوله، ووعي نخبته.