الصحوة – سيف بن حمد الجرادي
ثمة أوطان تُستيقظ في الوعي قبل أن تُرسم على الخرائط، وكأن حضورها سابقٌ على الجغرافيا، وأحيانًا، لا نُولد من أرحام الأمهات فقط، بل من ذاكرة الأرض التي تسبقنا، العراق ليس وطنًا نراه، بل مرآة تُعيدنا إلى أنفسنا الأولى… إلى لحظة البدء، فهو ليس سطرًا في كتاب الجغرافيا، بل هو الذاكرة التي تكتب الجغرافيا وتعيد تشكيل الزمن، حين تتكلم الدول، تبقى الكلمات عابرة، إلا في العراق، فإنها تتثبّت، تخلّد، وتتحوّل إلى معنى، كل أرض تقول ما فيها، أما العراق، فهو يُلقي ما فينا، في تضاريسه تنكسر المعايير الزمنية، وتذوب الحدود بين الماضي والحاضر، فكأنه وطن لا يعيش في زمنه، بل يصوغ الزمن على مقاس الحضارة.
حين استُدعيت للتدريب مع معهد النفط العربي التابع لمنظمة الأوابك، ووطأت قدماي أرض مطار بغداد، انتابني شعور عجيب… كأنني لا أسير على أرض، بل أمشي على سطور التاريخ ذاته، كان الهواء مشبعًا برائحة الحكمة، وملامح الوجوه تحمل بقايا حضارة لا تزال حيّة في الملامح والنظرات، وحين خرجت إلى شوارعها، لم أجد البرد الذي يُخيّم على مدن الشتاء، بل وجدت الأحضان الدافئة، تلك المغلّفة بـالسخاء العراقي الأصيل، وبالطيبة التي لا تُدرَّس في كتب الأخلاق، بل تنبع من عمق الفطرة المتجذّرة في أرض الرافدين،
لم يكن العراق طارئًا على التاريخ، بل أصله العميق، جذره الذي ينبض من سومر إلى أور، من بابل إلى نينوى، من الكوفة إلى بغداد، إنه الأرض التي مشت عليها أقدام الأنبياء، واحتضنت أوّل الأبجديات، وسُطّرت فيها أقدم القوانين، وحُمِل فيها الحرف كرسالة لا كأداة، من ترابه خرجت الفكرة، ومن مياهه انبثق الوعي، كان العراق مهدًا للنبوّات، ومنبعًا للحكمة، ومنارةً لممالك لم تندثر إلا شكلًا، أما أثرها، فما زال حيًّا في كل حضارة لاحقة.
ليس العراق وطنًا كسائر الأوطان، بل فكرة سامقة عن معنى الإنسان حين يكون جزءًا من التاريخ لا عابرًا فيه، في أرضه صيغت أولى القصائد، ورفرفت فيها أجنحة الفلاسفة والعلماء، المتنبي، الجاحظ، الكندي، ابن الهيثم، الفارابي، وغيرهم لم يكونوا مجرّد أعلام، بل تجليات لفكرٍ نشأ في بيئة كانت تعتبر المعرفة حياة، العراق لم يكتب فقط، بل علّم الآخرين كيف يكتبون، لم يكن منبرًا للقول، بل فضاءً للفهم، ومنارةً للفكر، وذاكرةً تسري في الحبر والماء، وإذا كانت الحضارات تُقاس بقدرتها على البناء، فإن العراق بُني بالمعنى قبل الحجر، وبالكرامة قبل القلاع، ما يُدهشك في العراقي ليس إرثه فقط، بل شهامة طبعه، وكرم روحه، فالعراقي لا يستقبل الزائر بالضيافة فقط، بل بالاحتضان، يعطيك بيته قبل سؤالك، ويضعك في القلب دون مقدمات، الكرم فيه ليس ترفًا، بل هوية، ليس سلوكًا مكتسبًا، بل فطرة مزروعة في عمق التاريخ.
رغم الجراح، ظل العراق واقفًا، عرف الاحتلال، والحصار، والحرب، لكنه لم يفقد ملامحه، لم يُهزم، لأن الهزيمة لا تدخل أرضًا شربت من نهرين دجلة والفرات، ولا تعيش في ذاكرة علّمت الإنسان معنى الزراعة، والكتابة، والقانون، كلما امتدّت اليد لتغلق كتاب العراق، فتحته الأرض من جديد، لتقول: لم ينتهِ بعد.
من يكتب عن العراق، لا يصف بلدًا، بل يُحاول أن يترجم نبضًا كونيًا عميقًا، هو ليس حدودًا سياسية، بل وعيًا حضاريًا سابقًا على كل التصنيفات، إنه ليس قصة تُروى، بل تجربة تُعاش، صوتها مزيج من همس طين الجنوب، وصهيل فرسان الشمال، وحنين الأم لابنها في المنفى، حين تخرج من العراق، لا تعود كما كنت… بل تصبح أقرب إلى الإنسان الأول، وأقرب إلى الحقيقة الأولى، أن الوطن ليس ما تسكنه، بل ما يسكنك هناك فقط، ندرك أن بعض الأوطان لا تُسكن، بل تُكتَب، لأن العراق، ببساطة، ليس وطنًا نُقيم فيه، بل هو الذي يُقيم فينا، وهو ما يحدث… حين يكون الحرف موطنًا.