الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
رُب ضارة نافعة ، هذه المقولة الشهيرة والتي قالها أحد المسافرين على ظهر سفينة ، فغرقت بسبب عاصفة وكان هو أحد الناجين ، وهي تطلق في العادة عند وقوع ضرر يأتي من ورائه أو بسببه ومناسبته خير عميم ، أو تجربة قد تكون مريرة لكن يستفاد من مرارتها ، لاستجلاب العبَر والفوائد فيما يمكن عمله مستقبلًا ، ولا يمكن للجوائح أو النوائب أو المصائب أن تدوم ، فتلك سُنّة الله في خلْقه ، فهو القائل : ” ” فإنّ مع العسر يسرًا إنّ مع العسر يسرا ” فالله مصرف المقادير لحكمة لا يعلمها إلا هو جلّ جلاله وتقدست أسماؤه وعظم شأنه .
كنت قد كتبت عدة مقالات وتحدثت في عدة لقاءات وحوارات إذاعية – وغيري كثيرون فعلوا ذلك – حول أهمية تعزيز الأمن الاقتصادي للبلاد ، من خلال الاعتماد على الذات في عملية الاستيراد المباشر من المنشأ ، وليس عبر وسيط آخر ، مهما كان هذا الوسيط ، ولدينا من الكفاءات العقلية والاقتصادية ، ما يغنينا عن الوسيط ، الذي لن يكون بالطبع نزيهًا وعفيفًا ، هذا بخلاف ما يكلفنا من عمليات الوساطة والسمسرة ، والتحكم في الشروط ، وغيرها ممّا نحن في غنى عنها ، فالوطن والمواطن والتاجر العماني المستورد المباشر أولى بها ، ذلك أنّ بلادنا دولة ساحلية وذات موقع جغرافي في غاية الأهمية ، ولا يوجد ما ينقصنا للقيام بذلك ، وقتها لم يجد كلامنا آذاناً صاغية، وعقولاً واعية لما نرمي إليه ، بل لعلّ البعض استهان بالطرح وربما وصل الأمر إلى حد إساءة الظن بنا من زاوية أننا نزرع الكراهية مع الجيران ، وهذا على غير الحقيقة إذ كان المنظور المصالح العليا للوطن وللمواطن ، فالأمن الاقتصادي اليوم يُشكل حصن الدفاع الأول لأي دولة ، وله متطلبات ومفترضات محددة حتى يتحقق ، فهو الحالة التي يتمكن من خلالها أفراد المجتمع ككل من تلبية احتياجاتهم الرئيسية من الماء والغذاء والدواء والسكن الكريم والرعاية الصحية ، بطريقة تضمن لهم حفظ كرامتهم ، أو بمعنى آخر هو قدرة الدولة على حماية مصالحها الاقتصادية من أجل توفير سبل العيش الكريم والحياة المستقرة لمواطنيها سواءً في الظروف العادية أو غير العادية .
كان حالنا – ولا زال – الاعتماد الكلي على أسواق الدولة الجارة ، سواءً على مستوى القطاع الخاص أو الأفراد ، ويتجلى ذلك في أكثر صوره ، أثناء الإجازات والمناسبات من خلال طوابير السيارات عند مراكز الحدود ، التي تمتد إلى بضعة كيلو مترات أحياناً ، حتى أنّنا نستورد منها عود الثقاب فما فوقها ، ما أكبر وما أدنى ، حتى أن بعض منتجاتنا التي نصدّرها لتلك الدولة – وهي قليلة – نعود من جديد لشرائها منهم .
وفي الواقع فإنّ المبررات والتفسيرات التي كانت تطرح لهذه الظاهرة العجيبة والمريبة في آنٍ واحد ، تختلف باختلاف الأطراف ، فالقطاع الخاص يشتكي من عدم الاستيراد المباشر عبر موانئنا ، بسبب ارتفاع كلفة المناولة والتفريغ والإيجار داخل الميناء ، خاصة عند تأخر شحنها لسبب أو لآخر ، بالإضافة إلى شكوى دائم من الروتين الإداري في عمليات التخليص الجمركي وغير ذلك من إجراءات ، وهذه الشكاوى تستوقف كل فطين ، إذ كيف لها أن تكون وبعض أصحاب القرار هم في الأساس مُلّاك شركات ، فإن لم يكونوا هم كانت عائلاتهم !!!
أما بالنسبة للأفراد فهم يبحثون عن تعدد الخيارات التي يفقدها السوق العماني بسبب الاحتكار كما يزعمون ، ناهيك عن رخص الأسعار بصورة كبيرة ، حتى ولو كان المنتج مقلّدًا الذي تعج به اسواق الدولة الجارة ، والذي فطنت دول الإقليم الأخرى إلى ذلك الغش التجاري الفاضح .
لقد مرّت علينا أزمتان ، للأسف لم نتعلم منهما ، الأولى أزمة جونو ، والثانية أزمة فيت ، وبقي الحال على ما هو عليه ، لأن الشريحة التي أوصلَت شرايينها بالدولة الجارة لا تريد لهذا الوطن أن يتفتّح على الخيارات المُثلى المتاحة ، لتظل استنزافاتهم لخيرات الوطن مستمرة ، لنصحو بعد تلكما الأزمتين على جانحة فيروس كورونا الذي هدد العالم بأسره ، وإذا بنا على وضع اقفلت فيه الحدود مع الدولة الجارة كتدبير احترازي لمنع انتشار هذا الوباء الخطير ، الذي يفتك بحياة البشر .
هذه المرة صدقت فينا ربّ ضارة نافعة، فإذا بنا فجأة نكتشف أنّ لدينا إمكانيات هائلة، وقدرات جبارة ، وموانيء جاهزة ومجهزة للاستيراد المباشر من المصدر ، فقد كشفت ” أسياد ” بأنّ الموانيء العمانية ترتبط مباشرة مع ٨٦ ميناءً تجارياً في أكثر من ٤٠ دولة بواقع ٢٠٠ رحلة أسبوعية مباشرة للموانئ الصينية والأمريكية والبريطانية وموانئ القرن الأفريقي والمصرية وموانئ الهند وماليزيا وغيرها من موانئ العالم بهدف تعزيز التصدير والاستيراد للسلع والبضائع ، لكن أن أصحاب تلك المصالح يودون احتكار الاستيراد ، وتحديد وجهتها وجهة واحدةً ، هي مقصدهم الثابت .
ولأول مرة نسمع تصريحات لمستوردين عمانيين مفادها اختصار التصدير والاستيراد المباشر عبر موانئ السلطنة ، لما تفوق نسبته ٥٠% من الوقت ، وكأنّ الجغرافيا قد تغيرت ، استتبعه تغيير في موقع السلطنة وموانئها ، أو أنها موانئ لم تكن موجودة من قبل .
لقد أنفقت الدولة الكثير من الأموال على إنشاء وتجهيز وتحديث الموانئ كميناء صلالة وميناء صحار وباقي الموانئ، كما هيأت البنية التحتية لاستغلالها الاستغلال الأمثل ، ويكفي الإشارة إلى طريق الباطنة السريع ، وطريق الباطنة الساحلي ، الذي بذل من أجل إنشائه الغالي والنفيس ، ومن الطبيعي انتظار الدولة للعائد المادي ، فميناءا صحار وصلالة بالذات ، أقيما على ميزة الموقع الاستراتيجي والقدرة على المنافسة الشريفة في المنطقة ، ومع ذلك لم نتحرك خطوة للأمام قبل جائحة كورونا ، لأن الفئة النافذة لا تريد ذلك ، وتعمل من أجل ذلك ما وسعها جهدها .
إنها لحظة المصارحة والمكاشفة ، فقد أثبت الواقع وأثبتت مؤسسات الدولة ، والعاملون فيها على جاهزية وقدرة مرافقنا الحيوية ، في الاعتماد على الذات دون الحاجة إلى وسطاء ، لذا فإنّ موانئنا ومطاراتنا ومصانعنا وشركاتنا العامة والخاصة ، مطالبة ، اليوم ، إفادة الوطن وتحريك عجلة الاقتصاد لمواجهة التحديات المقبلة ، فعمان بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله تحتاج إلى تكاتف الجميع وتغليب المصالح العليا للوطن ، وهذا كلام موجه للقطاع الخاص وموجه للمسؤولين ، إذ لم تعد هناك حجة مقبولة أو تبرير مستساغ ، أعينوا ولي أمر البلاد على حمل المسؤولية الوطنية والخروج من هذه الأزمة الاقتصادية التي تزداد سوءًا، ومن لم يجد نفسه أهلاً للعمل الجاد الفاعل المخلص فليعتزل هذا الأمر ، وليترك المجال لغيره . وأدعو إلى الضرب بيدٍ من حديد على أي أحد مهما كان وضعه واسمه ، إذا وُجد أنه يعرقل هذا التوجه بأي شكل من الأشكال .
عمان بعد كورونا – كسائر العالم – غيرها بعد كورونا .
أعلم علم اليقين بأنّ كلامي هذا قد يُغضب البعض مني ، ويعلم الله أن صراحتي هي من أجل عمان أولاً ، ومن أجل عمان ثانياً ، ومن أجل عمان للأبد .