الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
من مقومات نجاح النهضة المباركة عند قيامها، هو ما استلهمته من فكر وخبرة وحكمة مؤسسها جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور شمله الله برحمته الواسعة، ما يسرّ لها الطريق لتشيد دولة آمنة مستقرة تنعم بالرخاء والازدهار، ويشعر المواطن فيها بمقومات الدولة العصرية، ويستنشق على ترابها من نسائم الحرية والكرامة .
إنّ النشأة الخاصة التي نشأها جلالته، والتحصيل العلمي والعملي الذي تلقاه، والاستعداد الشخصي لديه، خلَقَ منه وكوّن شخصية عظيمة تمتلك مخزوناَ معرفياً في شتى العلوم، وهذا ليس من باب التبجيل والتعظيم له فقد حباه الله بمنزلة عالية، ومرتبة رفيعة وحباً كبيراً في قلوب الناس تغنيه عن ذلك، تشهد بذلك الإنجازات التي تحققت في عهده، والمشاريع التي كانت من صميم عقليته وأفكاره، بالإضافة إلى سعيه ونجاحه في أن تتبوأ عمان المكانة اللائقة بها دولياً، وستظل شهادتنا في حقه مجروحة، لن نستطيع الإحاطة بها في مقال، ونور الحق والحقيقة أبلج لكل منصف .
ولعلنا تكلمنا في مقال سابق عن نشأة جلالته غفر الله له، وعن دراسته وخبرته العملية، لكن نضيف هنا ما صرّح به للصحافة بعد عودته إلى عمان، أنه تعمق في دراسة الفقه الاسلامي والتاريخ عموماً والتاريخ العماني خصوصاً ، كما قرأ الكثير من النظريات والأفكار لعدد من السياسيين والمفكرين .
ويمكننا أن نتساءل بعد ذلك :
هل من غير الممكن ألا يكون لهذا المخزون المعرفي لجلالة السلطان أثرٌ في مسيرة النهضة؟ وبعين البصير، وعقلية المنصف، يكون الرد الطبيعي، أنه أثرى المسيرة إثراءً غير محدود، حيث أتت من فكره ورؤيته وخبرته وقناعاته الشخصية، تخطيطاً وتوجيهاً وإرشاداً وإشرافاً لوضع عمان في حال متقدمة من المعاصرة والرقي، في توازٍ وتوازن عجيب ومبهر في كل الجوانب، دون إغفال أو زيادة اهتمام جانب على أخر، إلا ما دعته وفرضته الضرورة والأولويات، وقد تمثّل ذلك جلياً في جوانب الدين واللغة، والأدب، والتاريخ، والفلك، وشؤون البيئة، من خلال دعمه اللامحدود للمشروعات العلمية والثقافية ليس على مستوى الداخل ، وإنما على مستوى الخارج أيضاَ من خلال إنشاء ودعم المؤسسات والمراكز العلمية والثقافية التي تخدم الإنسانية جمعاء، دون أن يتبع ذلك مَنًّا ولا أذى، بل حتى مجرد الإعلان عنه، وقد حضرت هذه المواقف شاهدة بعد وفاته ومن بين ذلك ما أعلن عنه الإمام الأكبر شيخ الأزهر عن تبرع جلالته لعدد من المنح والبعثات الدراسية، اللهم اجعل تلك الاعمال النبيلة في ميزان حسناته أضعافاً مضاعفة .
وإذا كان التعليم العسكري قد ترك أثراً كبيراً في تكوين الفكر العسكري لدى السلطان الراحل فإنه من المؤكد، أنه انعكس على القوات المسلحة بكافة تشكيلاتها من خلال ما يمثله قائدها من رمز لها، وما يتمتع به من ثقافة عسكرية واسعة الإطلاع. ولقد عبرت هذه الشخصية العسكرية عن نفسها من خلال التخطيط والقيادة، والمشاركة في العمليات العسكرية ورعاية القوات المسلحة في أغلب مناوراتها وأنشطتها واحتفالاتها .
وتميزت شخصية المغفور له جلالة السلطان قابوس بالجانب الانضباطي ، والحق يقال أنّ حياة الضبط والانضباط أصبحت سلوكاً عمانياً لدى كل فرد من أفراد المجتمع، سواءً تعلق الأمر بالشأن العام، أو بالشأن الخاص، فالعماني تجده منضبطاَ في مدرسته ، وكليته، وعمله، وفي سيارته واجتماعاته، وفي استقبال زواره وفي زياراته للخارج وحتى في بيئته ، وسائر شؤونه الأخرى.
ولن نترك الجانب الإنساني في تكوين شخصية السلطان الراحل ،على الرغم أننا تحدثنا في مقال سابق عن علاقة الحاكم بالمحكومين، حيث تجذرت العلاقة الإنسانية بينه وبين شعبه العماني حتى أصبحت شيئًا فريداً في عالم تحكمه المادة وتغيره المصالح ، نعم هي علاقة حاكم ومحكومين، ولكنها تقوم على الحب والود والاحترام المتبادل، ومن مميزاتها أيضاً، إيمان الحاكم بأنه صاحب رسالة قبل أن يكون صاحب سلطة، ومن أقواله المأثورة : “إن الوظيفة مسؤولية وتكليف، قبل أن تكون سلطة وتشريف”. كرّس جلالته رحمه الله، نفسه وجهده ووقته من أجل الوطن وأهله . كثيرة هي المواقف التي يحفظها المواطن والمقيم للسلطان قابوس، وكثيرون هم السياسيون والإعلاميين والشخصيات العامة التي خرجت بانطباعات عظيمة بعد لقائهم به، حتى المساحة الفاصلة بينه وبين من يلتقي به وإن كانت معنوية تتلاشى في حضرة حاكم نذر نفسه لشعبه .
خامساً : التكوين الشخصي لمجدد النهضة :-
جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، آلى على نفسه، ومن أول تسلمه مقاليد الحكم، أن يقوم بالتجديد والتطوير والتغيير في النهضة المجيدة، هو سلطان من نسل سلالة سلاطين عظام، ومن كان نسله كذلك وتربى في المدرسة القابوسية لن يكون إلا عظيماً، مهاب الجانب قوي الشكيمة، عالي الهمة، قوي الإرادة، عاشقاً لتراب وطنه، محباً لشعبه، وفياَ لوعده، باراً بعهده، تربى في كنف والده فارس الفرسان وسيد الشجعان، صاحب المروءة، كريم الخصال، الذي ذاع صيته عند الخاصة والعامة المغور له بإذن الله تعالى صاحب السمو السيد طارق بن تيمور طيب الله ثراه .
ولد جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في مدينة مسقط في الحادي عشر من أكتوبر عام ١٩٥٥م، تلقى تعليمه الابتدائي في المدرسة السعيدية بمسقط، ثم بعثه والده إلى بيروت ليتلقى تعليمه الإعدادي في مدرسة ” برمانا العليا ” ، لم يدم بقاء جلالة السلطان في بيروت، حيث غادرها عام ١٩٧٢م متوجهاً إلى المملكة المتحدة لمواصلة دراسته الثانوية، ومن ثمّ الجامعية، حيث التحق بواحدة من اعرق جامعات العالم، وهي جامعة أكسفورد في كلية بيمبروك .
التحق بمعترك الدبلوماسية وخبِرها جيداً، حيث عُين وكيلاً لوزارة الخارجية للشؤون السياسيةعام ١٩٨٦م ، ثمّ أميناً عاماَ لوزارة الخارجية عام ١٩٩٤م، فلما تخرج من المدرسة الدبلوماسية، وكأنّ جلالة السلطان الراحل كان يعده لقيادة الدولة، تمّ تعيينه وزيراً للتراث والثقافة، ليقف عن قرب بكل أدقّ التفاصيل على حضارة وتاريخ وتراث بلاده، الذي يعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، ليكون الحارس الأمين لها ولشعبها .
ومنذ أن تولى جلالته مقاليد الحكم أثبتت الأشهر القليلة الماضية بأنه رجل دولة من الطراز الأول، دقيق في إدارته لشؤون البلاد، حاسم في قرارته متواضع مع وجود هيبة السلاطين، محباً لشعبه، يتجول منفرداً بدون موكب، يترأس اجتماعات مجلس الوزراء واللجان العليا فيأمر ويوجه ويرشد ويتابع كل صغيرة وكبيرة، وسلطاننا اليوم دخل القلوب من أوسع ابوابها، فاحبهم وأحبوه، ووضعوا آمالهم وطموحاتهم ومستقبلهم بين يديه الكريمتين، فالعهد يتجدد من الطرفين، وهبة ومنحة السماء تتكرر، فهنيئاً لعمان وشعبها ودام العز والحب لك يا أرض اللبان .