الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
فرض الله الشورى على المسلمين في شؤونهم العامة والخاصة، وذلك من خلال آيتين صريحتين، الأولى الأية رقم ١٥٩ من سورة آل عمران وفيها أمر صريح وواضح لرسوله الكريم صلوات الله وسلامه بالمشاورة، رغم الهزيمة في غزوة أحد، والتي جاءت خطة قتال المشركين فيها نتيجة رأي أكثرية المسلمين، حيث قال الله عزّ وجل ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) ، أما الآية الثانية، فقد وردت في سورة الشورى بالرقم ٣٨ وهي تصف حال المؤمنين (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)، وإن الآية قد جاءت بصيغة خبرية، إلا أنه يلاحظ بأنّ الشورى وردت بين فرضين وركنين من أركان الإسلام، الصلاة والزكاة، ومن هنا تاخذ الشورى ذات الحكم وهو فرضها على المسلمين.
والثابت أنّ العمانيين مارسوا الشورى قديماً سواءً من خلال مؤسسة عُرفت باسم أهل الحل والعقد في اختيار الائمة، أو ما يتخذه هؤلاء من المستشارين من أهل العلم والتقوى والمعرفة بأمور الحرب والسياسة، إلى جانب ذلك السبلة والبرزة التي تجمع العمانيين للتشاور في أمور حياتهم .
وبقيام نهضة الفخر والكرامة أرسى جلالة السلطان المغفور له قابوس بن سعيد بن تيمور ممارسات جمعت بين الأصالة والحداثة في بانوراما عمانية خالصة، وذلك من خلال مسارين هما : –
المسار الأول : الجولات السلطانية
فإلى جانب الزيارات والجولات
التي يقوم بها سراً ودون سابق
إنذار، استحدث الجولات الرسمية التي يجوب فيها الولايات العمانية، مدة قد تصل الشهر وربما تتعدّاه، في ظروف مناخية غاية في الصعوبة بين حرّ وبرد ومطر و ريح غربية
حارّة تكاد من لهيبها تشوي
الوجوه شيّا، ناهيك عن أنه لا توجد في أجندته مخاوف أمنية لأن العدل كان أساس ملكه قولاً وفعلاً، ومن كان ذاك ديدنه فالعدل حارسه، إذ ساوى بين رعيته وسار فيهم بالعدل والشورى والإحسان، حتى اطمأن شعبه على نفسه وعرضه وماله وعلى حكمة وبصيرة وحنكة قائده ، واطمأن القائد إلى شعبه بحبه وولائه ووفائه له ، فلا خوف ولا قلق ولا تذمر أو استهجان، وإنما أمن وأمان واطمئنان، دون إغفال لطاعة ولي الأمر ما أطاع الله، وإن لم يوصف القابوس بالمطيع لله فمن يكون ؟ !
يرافق جلالته رحمه الله عدد من وزراء الخدمات، حيث يقيم في كل محافظة بضعة أيام في مخيمه السلطاني الذي يحميه شعبه بالتواجد حوله ليل نهار قبل حرسه الخاص، وفي وصف دقيق لجلالته للهدف من هذه الجولات نشرته جريدة عمان عام ١٩٩٨م ، قال :- ( عبر هذه الزيارات الميدانية أرى الناس وأسمع منهم وأعايش أوضاعهم الحياتية كما هي الصورة مباشرة، فالناس يقولون لي ما لديهم ويشرحون مشاكلهم، وشؤونهم ، وشجونهم، ويعرضون لي آراءهم وأفكارهم وأنا من جهتي أبحث معهم عن حلول لهذه المشاكل) .
يصاحب هذه الجولات والزيارات الرسمية عدة أنشطة وفعاليات بقصد استثمارها الاستثمار الأمثل والحقيقي بما يعود بالفائدة على المجتمع، ومن بين هذه الفعاليات مايلي :-
١- عقد برلمان عمان المفتوح :-
يعقد جلالته غفر الله له في كل
محافظة يحط فيها مخيمه السلطاني، لقاءً شعبياً يحضره محافظ المحافظة وولاتها والقضاة والمسؤولون فيها والشيوخ والرشداء ورجال العلم والأدب والأعيان وكثير من المواطنين، وقد اعتاد العمانيون على تسمية اللقاء ” برلمان عمان المفتوح ” لأنه يقام في مكان فسيح في الفضاء، لا تحده جدران ولا توصده أبواب، ولا تتقيد الموضوعات المطروحة بجدول أعمال، ولا يخضع لمراسم برتكولية معقدة، لقاءً عفوياً تحيطه عظمة الإنسان والمكان .
يجلس الجميع على كراسي خشبية، ثمّ يفتتح السلطان اللقاء بالحديث في بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية ذات الشأن العماني مبيناً فيها رأيه وتوجيهاته السديدة، بعد ذلك يبدأ جلالته بالاستماع إلى المواطنين واحداً تلو الأخر، في مسافة لا تفصل بينهما أكثر من نصف المتر، وذلك عن مطالبهم واحتياجات ولاياتهم، أو شكوى حول موضوع معين حيث يتم وضع الحلول في ذات اللحظة حيث يجلس الوزير المختص على ذات الكرسي الذي يجلس عليه المواطن .
٢- عقد ندوات وطنية في المخيم السلطاني، يحاضر فيها مسؤولون كبار واكاديميون ومتخصصون، تتعلق بقضايا مجتمعية اقتصادية مثل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والباحثين عن عمل، واجتماعية مثل دور المرأة في الحياة العامة باعتبارها شريكة الرجل وترفع توصيات الندوات للمقام السامي للمصادقة عليها ليدفع بها للتنفيذ فورا.ً
٣- الإعلان وتبشير أهالي المحافظة عن إقامة مشروعات تنموية فيها
٤- توجيه جلالته للوزراء بزيارة المشروعات القائم تنفيذها وزيارة وحداتهم الإدارية
واليوم وفي ظل العهد السعيد لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم أبقاه الله مجدد النهضة يتكرر المشاهد الوطنية رغم ما يلمّ بالعالم أجمع من وباء وبلاء فيروس كورونا، فإنه لا يهدأ، فتراه يجوب عمان طولاً وعرضاً، فمن صحار إلى منح، ثم إلى الجبل الاخضر، وها هي محطته في محافظة ظفار، وقد عقد لقاءَ وطنياً جامعاً حضره المحافظ والولاة والشيوخ والرشداء والأعيان، دار فيه حوار بين القائد والحضور، وتفضل جلالته حفظه الله أيضاً بوضع حجر الأساس لمستشفى صلالة المرجعي ويتفقد عدداً من المنشأت في المحافظة، فيما تنتظر المحافظات الأخرى إطلالته السامية.
وإذا أردنا استخلاص بعض الرسائل من هذه المشاهد العظيمة، لوجدناها كثيرة تتزاحم في مضامينها وأولوياتها ومنها :
١- يضرب سلاطين عمان في إدارة شؤون البلاد فلسفة فريدة في مبناها وفحواها وطريقة تنفيذها، تختلف عما عهدته الشعوب والدول ، وعلى ذلك فإنّ هذه الفلسفة يجب أن تدرس على مستوى العالم.
٢- يضرب سلاطين عمان، سنة حميدة تحمل أروع وأصدق الأمثلة في الإيثار والتضحية بالنفس، وفي تحمل المشاق من أجل إسعاد شعبهم ومواطنيهم ، مهما بعدت المسافة وعظمت المشقة، فالمواطن عند ولي الأمر أغلى وأهم، من أي شيء آخر، وتهون من أجله كل الصعاب.
٣- يرسل الحاكم رسالة إلى شعبه بأنه قريب منهم، في اليسر والعسر، وفي المناشط والمَكره، وعاصمة القرار ليست ببعيدة عنهم، كما يتخذ القرار الوطني من مسقط يمكن أن تختضنه صلالة أو صحار أو نزوى أو عبري أو صور أو البريمي ..
٤- الاستفادة من هذه السنن الحميدة سياسياً ومعنوياً
٥- تعزيز وترسيخ الوحدة الوطنية واللحمة الداخلية من خلال تواصل الحاكم مع مواطنيه والاهتمام بهم، وإشعارهم بأنهم جزء من النسيج الوطني.
٦- بناء علاقة مباشرة وصريحة بين الحاكم والمحكومين .
وبحول الله سيكون المقال التالي، حول المسار الثاني للشورى العمانية كمبدأ من مباديء الحكم الرئيسة