الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
كثيرة هي المحطات والمكتسبات التي تحققت في هذا الوطن خلال خمسين عاماَ الماضية وسجلتها الذاكرة العمانية بكل فخر واعتزاز، كثيرة بعدد الآمال، شامخة تتجاوز الطموحات، يصعب رصْدها وعدّها، ولكني وكما وعدت القاريء الكريم، بأنني سأخرج عن النمط التقليدي في كتابة هذه المقالات المخصوصة، لأبحر في سفين مضامين أمجاد النهضة المباركة وأهدافها وأُسُسها، ولكن تفرض بعض المكتسبات نفسها كي لا يتخطاها أحد، لانها محفورة في الذاكرة العمانية، بسبب عمقها أو أهميتها أو استراتيجيتها أو عظم فوائدها، وربما كل ذلك، ولذلك ساتحدث عن بعضها، وسأبدأ بمناسبة الاحتفال بعيد النصر .
“عظيمة أنتِ يا عمان” عبارة سنظل – نحن العمانيين – نرددها قلوباً وأفئدة ومُهجاً قبل الألسُن، ، مادامت فينا شرايين الحياة تنبض وتجري فيها الدما، وهي ذات العبارة التي ردّدها آباؤنا وأجدادنا، وسيرثها أبناؤنا وأحفادنا والأجيال اللاحقة، ولطالما كانت تلك العبارة الذهبية مضموناً تطرز العديد من مقالاتي بهذا الشرف، فعمان ليست مجرد وطن عادي، بل هي قصة عشق أبديّة، امتزج فيها عَرق الإنسان العماني، وتضرّج دمه بالتراب العماني، وخضّبه كأنه مِسك في رائحته، لكنه عجينة قوية لا تزال متماسكة رغم عورات الزمن، وسهام كيد حَمَلة الضغائن والمحن والإحن، ينسجُ فصولَها مجدُنا وعزتُنا وشموخُنا، تتمثل مشاهدها في تتابُع فصولها في تناسق عجيب، من خلال ماضينا الناصع الذي لا يُمكن أن ننسلخ منه، ونفتخر به، وحاضرنا المجيد الذي صنعناه بعزائمنا، ومستقبلنا المشرق الذي سيحقق آمالنا وطموحاتنا، بإذن اللّه تعالى، خلف قيادتنا الرشيدة الواعدة .
مرّ بنا موضوع التمرد العسكري في جنوب البلاد، الذي ورثته النهضة المجيدة، وكان حقاً تركة ثقيلة، فممّا لا شك فيه، أن هذا التمرّد قد أضعف الوحدة الوطنية للبلاد، ونخر في مقوماتها، كما أنه أنهك موازنات الدولة واستنزف مقدراتها ومواردها المالية؛ التي تم تسخيرها من أجل القضاء عليه، تمرد عبثي فكرياً وسياسياً وعسكرياً، فخاضت القوات المسلحة الباسلة حرباً شرسة في جنوب البلاد لدحره ، وشراسة الحرب تنطلق من المفهوم العسكري، كما عبّر جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور طيّب الله ثراه، في حديث صحفي لمجلة درع الوطن الظبيانية بتاريخ ١٤ / ٢ / ١٩٧٣م، من كونها حرب جبال وكهوف، ومع ذلك فإنّ قوات السلطان المسلحة كانت تقاتل بشرف، هدفها وحدة الأرض العمانية وشعبها من الشمال إلى الجنوب، دون رغبة في الإبادة والانتقام، فالمتمرد عماني قد غُرّر به .
ولأنّ القيادة السياسية أو العسكرية هي في المقام الأول سلوك يمارسه القائد ليضرب به المثل الأعلى لجنوده، وليزرع فيهم العقيدة العسكرية والتضحية والفداء، كان رحمه الله، يتقدم الصفوف في ميادين الوغى، تارة بالتخطيط والتوجيه وقيادة العمليات العسكرية، وتارة بالإمساك بالبندقية مقاتلاً جنباً إلى جنب جنوده البواسل، تاركاً وراء ظهره حياة القصر الباذخة إيماناً واستجابة للواجب، فأي رجل هذا الذي نتكلم عنه ؟ إنه رجلٌ من طراز نادر، إنه لا يقوى ولا يؤمن ويقوم بهذا الدور إلا قابوس، الذي رحل عنّا، وكان قد نذر نفسه لوطنه وأمته .
ولمّا كان العفو من شيم النبلاء الشجعان، فقد جعل الباب مفتوحاً لكل عنصر من عناصر التمرد في العودة إلى أرض الوطن لينضم إلى بني وطنه، حتى في خلال فترة الحرب، الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى إلقاء السلاح والاستجاية لنداء القائد، فكان للمسارين السياسي والعسكري خطّان متوازنان، وبحمد الله وبشجاعة وبسالة قوات السلطان المسلحة تحقق النصر وتم تطهير الأرض، واستعادت الدولة كامل سلطتها على ذلك الجزء العزيز من ترابنا الوطني.
وفي الحادي عشر من ديسمبر عام ١٩٧٥م، احتفل العمانيون بعيد النصر على القوى الظلامية ومن ساندها ودعمها، وعبروا عن ذلك بمسيرة شعبية مشياَ على الأقدام من دوار مركز عمان التجاري إلى الملعب الرياضي بالوطية، مسيرة عفوية بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، جموع من المواطنين جاءت من كل ولايات السلطنة، وكنت ممن نال شرف المشاركة في هذه المسيرة، التي تقدمها عدد من أصحاب السمو والمعالي والشيوخ، وازدانت المسيرة بأعلام السلطنة واللافتات المعبرة عن الفرحة العارمة بعيد النصر، وأصبح الحادي عشر من ديسمبر من كل عام يوماَ للقوات المسلحة، ذكرى ملحمة عظيمة سطرتها قوات السلطان المسلحة بدعم من الشعب العماني .
وفي الميدان الرياضي في الوطية، كان السلطان الراحل في انتظار واستقبال تلك المسيرة الحاشدة، التي قدرت بلغة الأرقام آنذاك بمائة ألف مواطن، تصدح حناجرهم وتلهج ألسنتهم بالحمد والثناء على النصر المبين، والدعاء والرجاء من المولى عزّ شأنه بأن يحفظ عمان أرضاً وشعباً آمنة مستقرة تزهو بها الأعوام عاماً بعد عام .
وأمام هذا الجمع الكبير، ألقى جلالته رحمه الله رحمة واسعة، خطاباَ قال فيه : ( يا أبناء عمان البواسل؛ إني إذ أحيي احتفالكم اليوم وأبارك انتصاركم على عصابة البغي في جزء من الوطن العزيز، فإنني أبارك هذا الانتصار، لا لأنكم طردتم المعتدين من البلاد فحسب، بل ودحرتم رؤوس الالحاد التي ظنّت أنها لن تُغلب، لذلك فانتصارنا هذ بحمد الله هو أول انتصار على الشيوعية العالمية، تقوم بها دولة عربية في ميدان القتال في حرب دامت سنين طويلة وثاني انتصار تقوم به دولة عالمية… ) .
والمتتبع لخطاب النصر بكامله، ومع زهوة وفرحة النصر، إلا أنّ القادة الكبار يضربون لعدوهم مثلاً في الصدق عن ظهر قلب بالخير والبركة والعافية، وأن يريحهم الله من التشرد والجوع والمرض والجهل، ما أعظمك يا قابوس، كنت كريمًا دائماً حتى مع عدوك، رحيم في كل مواقفك، نسأل الله لك الرحمة والمغفرة وأن يسكنك الفردوس الأعلى .