الصحوة – الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
بطبيعة الحال لا يُمكن الحديث عن وجود منظومة تشريعية أو قانونية متكاملة قبل عام ١٩٧٠م، ومع قيام النهضة العمانية في يوليو من ذات العام، انصبّ اهتمام القيادة حينها، بالحاجات الإنسانية الأكثر إلحاحاً وضرورة، إلا أنه مع توالي العمل وازدياد تلك الحاجات، برزت في الجانب الآخر الحاجة إلى وجود قوانين تنظم العلاقات بين الأفراد بعضهم بعضاً، وبين الأفراد من جانب والدولة من جانب آخر، كي تنتظم الحياة وفق نظام ثابت ومعروف لدى الجميع، وبذلك تستقر المراكز ويسود حكم القانون، وتصان من خلاله الحقوق والواجبات .
وشهدت العملية التشريعية في السلطنة مراحل عدة، سبق الحديث عنها في مواضع مختلفة، وليس من حسن القول تكرارها، المهم أنها لامسَت معظم الأنشطة والحاجات المجتمعية، وكان أبرز هذه التشريعات قانون تنظيم الجهاز الإداري للدولة، الناظم والحاكم الفعلي لكافة مؤسسات الدولة، مع شموله على مباديء أساسية للأفراد، مثل مبدأ الشرعية، وعدم رجعية القوانين، وشخصية العقوبة، ولزوم نشر القوانين في الجريدة الرسمية .
ولأنّ القيادة السياسية بزعامة المغفور له جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، أسبق في التفكير وأسرع في اتخاذ ما يؤدي إلى بناء دولة المؤسسات وترسيخ مبدأ سيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات العامة للمواطنين، ومنحهم حق المشاركة في الشؤون العامة، أصدر جلالته في السادس من أكتوبر عام ١٩٩٦م، النظام الأساسي للدولة، وهو أول نظام أساسي مكتوب في تاريخ السلطنة، وهي حالة شكلت مفاجأه سارة لعموم من ينتمي إلى أرض الغبيراء، إذ لم يكن هناك من يتوقع صدور مثل هذا النظام الاساسي للدولة، لكنّ السلطان الراحل بفكره السامي ورؤيته الثاقبة وحسّه الوطني أدرك بأنّ البلاد أصبحت بحاجة إليه، وأنها مهيأة لإصداره واستقباله، فكان لحظة تاريخية أرّخت لمرحلة جديدة، تختلف عن مرحلة ما قبل صدور النظام الأساسي للدولة، فهي تعتبر بحق نقلة نوعية في المجال الدستوري والقانوني في السلطنة، ولقد أدلى المغفور له بُعَيد صدور هذا النظام بتصريح لمجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، قال فيه : ( قلت لنفسي حان الوقت لوجود النظام الأساسي للدولة، فاستدعيت أربعة من العمانيين ممن أثق بهم وأبلغتهم بفكرتي وأمهلتهم سنة لصياغة النصوص، ثمّ جلسنا جلسة ثانية للمراجعة النهائية… ) .
ومن شدة السعادة بهذه الخطوة الجبارة التي أقدم عليها جلالته رحمه الله، والتي لم تكن لتخطر على بال أحد من قبل الكافة، قدت سيارتي بنشوة العزة والفخر وأنا أستمع إلى نصوص النظام الاساسي للدولة نصاً نصا بواسطة مذياع السيارة، وأحللها تحليلاَ سريعاَ، فأيقنت أنّ المُخاطِبُ للمخاطب أحرص وأنفع، فالأصل أنّ المللوك والسلاطين لا يُقدمون على هكذا خطوة إلا بعد ضغط ومطالبات شعبية، لكن الوضع في عمان، فإن المعادلة مختلفة عن سابقتها، فهنا كان السلطان ليس ككل السلاطين، هنا نحن، كنا أمام سلطان آمن بعظمة الرسالة وعظمة مسؤولياتها ومتى وأين يتخذ القرار لصالح شعبه . حقاَ أتعبت العقول يا قابوس، ذلك أنّ هذه العقول كلما حاولت الاقتراب من معرفة فكرك، تكتشف أنك سبقتها خطوات ومراحل، حتى أنّ تلك العقول تعبت واحتارت أمام ذلك الفكر لجلالته رحمه الله .
تضمّن النظام الأساسي للدولة ستة أبواب، ضمت واحداً وثمانين مادة ، وقد جاء الباب الأول تحت عنوان الدولة ونظام الحكم، وتضمن الباب الثاني المباديء الموجهة لسياسة الدولة، وخُصص الثالث للحقوق والواجبات العامة، وجاء الباب الرابع تحت عنوان رئيس الدولة، أما الباب الخامس فيتعلق بمجلس عمان، واخيراً الباب السادس الخاص بالسلطة القضائية وسيادة القانون.
عبّر المواطنون عن سعادتهم وامتنانهم للمقام السامي في ذلك اليوم التاريخي المشهود، كلٌ عبّر بطريقته الخاصة وبعفوية متناهية، وسيبقى هذا اليوم محفوراً في ذاكرة التاريخ العماني .
ولقد أجري تعديل واحد على النظام الأساسي للدولة منذ صدوره، كان في عام ٢٠١١م، إذْ انصبّ معظمه على المادة ٥٨ الخاصة بمجلس عمان، حيث تمّ تكرارها ٤٣ مرة، وكم كنا نتمنى على اللجنة المكلفة بإعداد التعديلات إما أن تجري التعديلات على الباب الخاص بمجلس عمان وتعيد ترتيب الأرقام بناءً على حجم التعديلات ، وإما نقل هذا الباب بالكامل إلى الآخر واجراء ما يلزم بشأن ترتيب تسلسل المواد .
وبمناسبة الحديث عن النظام الأساسي للدولة، أود أن أذكر نقطة غاية في الأهمية ، وهي أنّ بعض المسؤولين عندنا يتذمرون من كلمة دستور، ويذهبون إلى القول بأنه ليس لدينا دستور، ظناً منهم أنهم يُحسنون صنعاً، ويقولون حقًا، وفي الحقيقة هم بهذا القول، إنّما يُسيئون إلى بلدهم، وينفون عنها صفة دولة القانون وصفة دولة المؤسسات… فلا توجد أصلاً في العالم دولة بدون دستور، نعم بإمكانهم القول أننا لا نستخدم مصطلح دستور وإنما مصطلح النظام الاساسي للدولة، وللتوضيح أكثر فإنّ ما يتضمنه الدستور هو ذات الموضوعات التي يتضمنها النظام الاساسي للدولة، وهي : شكل الدولة، ونظام الحكم، والسلطات العامة واختصاصاتها، وحقوق وحريات الأفراد، ويُمكن لأي فرد أن يعقد المقارنة بين الاثنين .
الفرق الأساسي بين المصطلحَين أن كلمة دستور فارسية الأصل، وهي كلمة مركبة من دست و ور وتعني صاحب قاعدة وقد انتقلت هذه الكلمة إلى العربية عن طريق اللغة التركية ويقابلها بالإنجليزية contisution , وعلى ذلك فإن كلمة دستور عُربت، واصبحت ذائعة الصيت مستخدمة في كل دول العالم باستثناء سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، الجدير بالذكر أنّ العراق كانت تستخدم مصطلح القانون الأساسي حتى عام ١٩٢٥م ، وكذلك الأردن حتى عام ١٩٤٦م، أما مصر فكانت تستخدم مصطلح القانون النظامي أو نظام الهيئات العمومية حتى صدور دستور ١٩٢٣م .
وطالما أننا في حمى جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله وأعزّ شأنه وأبقاه، فإني ألتمس إصدار دستور أو نظام أساسي جديد. لا تهمّ التسمية، على اعتبار أننا في مرحلة عهد سعيد جديد له متطلباته واحتياجاته، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ النصوص الحالية الواردة في النظام الأساسي للدولة وخصوصاً التي أدخلت في عام ٢٠١١م غير منضبطة الصياغة، مما فتح الباب على مصراعيه للاختلاف في التفسير والتأويل والاجتهاد، كلُ ينطلق من المصلحة التي يُريد الوصول إليها، دمتم سيدي المجدد لنهضة عمان عاهلاً تفديك الأرواح والدماء، فجلالتكم أمل عمان كلها وإنكم لتحقيق الأماني والآمال لقادرون بحول الله وتوفيقه.