الصحوة – مصعب بن خميس الشكيلي
وأنا أتابع تعليقات الإخوة المتابعين لي، شدّني تعليق أحدهم على مقالي السابق، ” إلغاء الهوية” بل واستفزني وأتعبني، حين قال، بأن تاريخنا العظيم ما يؤكّل عيشاً في وقتنا الحالي “
ولقد هالني ذلك الوضع المزري من الضعف النفسي، والخوَر الروحي، والاستسلام غير المبرر الذي وصل إليه حال البعض من شبابنا، وكأن تاريخنا هو سبب تخلفنا، ولم يدرك صاحبنا هذا وغيره، أن تخلفنا إنما يعود إلى عدم استلهامنا لإشراقات ماضينا الناصعة، وكيف أن الغرب هم من استفاد من ذلك، وقد ذكرت ذلك في ذات المقال، لكن ما يجعلك حائرًاً في تفسيره ، وعاجزًا عن تبريره، ومعتذرًا عن علاجه. ليس منطقه الواهي، بل إن البعض عندما يقرأ، تتلبسه أفكاره هو فقط، حتى وإن كان في المقال ما يجيب على تساؤلاته، وهذا للأسف الشديد، يبين أننا نقرأ ونرى بعين واحدة، ولا نستكمل القراءة لنلمّ بالمعنى، وبالتالي يفرز أفكاراً وتعليقات موضوعية، ونقاشات هادفة.
لا أريد أن أرمي صديقي هذا وغيره، بالاستهزاء أو بالتقليل من شأن الماضي التليد، أو الغضب على الحاضر الهزيل، الذي لم يكن لتاريخنا بالتأكيد دور في حدوثه، أو بالجهل، وهو أشد الآفات التي تفتك بالشباب، لينفصل عن حاضره، بل ويسِم ذلك التاريخ، ظلماً وعدواناً، بالنقص.
المؤمن كيّسٌ فَطِنٌ، والمؤمن ليس إمّعةً، ولا يُلدغ مؤمنٌ من جحرٍ مرتين. هذه صفات ربّانا وعلّمنا إياها سيدنا المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، ليكون المسلم متّصفًا بها، لأنه سيحمل رسالة الإسلام. فسيكون على مرمى السهام، وقبلة المعارضين والمغرّضين، ومُتَربّصًا به على الدوام؛ فوجب أن يكون على درجة عالية من الحرص والفطنة والذكاء؛ لأنه لا يعلم من أين يُؤتى، فقد يؤتى من قِبَلِ نفسه إن هو شعر بضعف ما يستند عليه مقارنة ببقية الأمم، كما هو الحال اليوم مع أمة الإسلام.
إن من ضعف الهمة والخوَر التقليلُ من شأن تاريخك والطعن فيه ونسفه بالجملة. ولئن شكوتَ تاريخ الأجداد لحاضرك، فما أرَى الخلفَ قد صنع معشار ما صنع السلفُ. بل إن الخلف يوم هزِلوا ولم يسترشدوا بالماضي ويجعلوه دليلًا وذخيرةً للحاضر، تسرب إليهم الضعف والهوان.
انظر بنفسك كيف تبدلت الأحوال، وانقلبت الموازين، ومن صار مُقدمًا بعد تخلفٍ، ومن تخلف بعد تقدمٍ. كان الناس يقطعون المفاوز ليصلوا إلى الإمام مالك حتى يقول أحدهم: سمعت عن مالك. فتكون له مفخرة. وكان يجلس الاثنان فيتناقشان في الآية، في سبب نزولها، وفي من نزلت، ومتى نزلت، فتمر الساعات الطوال على ذلك. أما اليوم فانظر ما يشغلُ الناس، وفيمَ يتفاخرون، وعلامَ يقضون الساعات الطوال. وانظر بمن استُبدل مالك بن أنس والشافعي. وانظر كيف يُجَاهر بتحلل الأخلاق، ويدافعون عنها بمبدأ الحرية. فلا تجد معارضًا، وإن وُجِد لم تجد الآذان الصاغية. تخالف القانون الإلهي “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم” وترجو بعد ذلك التغييرَ وأنت تستقل وتزدري بمن هو خيرٌ منك، وتتبع من هو أسوأُ منك، وحثالة الناس! بعد هذا أستطيع القول أننا أُتينا من قِبَلِ أنفسنا. ألا ترى تدني الأخلاق؟ وانخفاض معايير المحرمات؟ وأن ما كنتَ ترفضه بالأمس أصبحتَ تقبله اليوم. ألم تلاحظ نزول الدين من الدرجة الأولى في الأولويات إلى الثانية وربما الثالثة؟. ونقدم تنازلات من القيَم والأخلاق والتربية والدين، ثم تقول تاريخنا لا يؤكل عيشًا !!؟ .
معيارالتقدم في الإسلام يُقاس بمدى قُربك من الله وخدمتك للدين بالعلم والعمل. وأن العلم الذي جاء في القرآن إنما هو العلم بالوحيينِ. أما العلوم التطبيقية والإنسانية وعلوم الطبيعة، فقد جاءت ضمن آية “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”. اجعل الآية ميزانًا، وزِنْ العصرين أيهما حاز العلم والقوة معًا؟.
هذا، وإن أسهبت في الكلام وأطلت، فإني لا أدعو إلى ترك طلب العلم الذي هو القوة وإن أخذناه من عند الغرب (فالمسلم أحق به) وهو أول ما دعا إليه القرآن ب “اقرأ” فأكون قد ناقضت ديني ونفسي. ولكني أؤيد إزاحة الستار، وإزالة الغشاوة من العيون، وجلاء الرَّين من القلوب، ونعود إلى جادّة الصواب، فنضعَ الأمور في مواضعها. نقدم ونؤخر وفق معايير ديننا الإسلامي . فهو ميزان العدل، فانظر أي العصور أكثر خيريةً وأيها أقلّ .
وفي الختام، كنْ أيها المؤمن كما أراد لك رسولك أن تكون، كيّساً فطِناً، لا كما يريد لك المتربصون والحاقدون ” كيسَ قطن ” والسلام عليكم.