الصحوة – بُثينة بنت حُمود الحسنيّة
( قراءة في كتاب كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها) للكاتبة والمترجمة/ إيمان مرسال
انقطعتُ منذ فترة طويلة عن القراءة في الأُمومة وهمومها، كمن يحاول الهروب من شبحٍ ما، ولكن في الحقيقة يبدو أنّ الخوف قد تمكّن منّي، الخوف من مواجهة عيوبي و إخفاقاتي الأموميّة التي لا تنتهي ولن تنتهي، فأنا لستُ أمَّا مثاليّة ولن أكون! ، لأننّي وبكلّ بساطة أؤمن جدًا بأنّ المثالية كذبة اخترعها البعض ليُواري سوءاته، وليعزز مشاعر الذنب والتقصير لدى الآخرين،موهمًا إياهم بأنه إنسانًا سماويًا!
تُعلمنا إيمان مرسال في هذا الكتاب كيف نلتئم، وكيف نعالج شرخ الأمومة الذي يبدأ من أولّ يوم ينبثقُ فيه الجنين الصغير ممزقًا ذلك الرحم الدافىء، تاركًا شرخًا نفسيًّا خفيًا!
تأخذنا في رحلة طويلة من الصِراعات بين سحر الأمومة ووساوس الذنب، لتدهشك بصدقها و شفافيّتها في سرد تجربتها الأموميّة بشجاعة فريدة، ابتداءًا من موت أمها وهي لا تكاد طفلة صغيرة، مشاعر الفقد والألم النفسيّ والغُربة، وانتهاءًا باكتئاب طفلها الثاني يوسف.
تقول مرسال: ” ولدتُ ابني الأول في كندا، بعيدًا عن الأهل، وفي شبه عزلة حيث كنت قد وصلتُ إليها منذ شهور فقط وليس لي فيها أصدقاء بعد..”
وأنا كأمّ كاتبة خاضت هذه التجربة الزاخمة بالعواطف والمشاعر المتناقضة الغريبة، لن أنتقد مرسال نقدًا فلسفيًّا بحتًا بل سأتفهمّ كل مامرّت به، فلقد ولدتُ ابنتي الأولى في بلدي، وكانت أمّي تُرافقني إلى غرفة الولادة بقلقها المضاعف وصلواتها الخفيَّة.
لقد كان لحضور أمي بركات، وألطاف عجيبة، تمسح بيديها على بطني المنتفخة تارةً، وتدعو الإله أن يسهل علي المخاض تارةً أخرى، رأيت في عينيها ما لم أره من قبل، رأيتني هناك طفلة صغيرة تلهو بألعابها وتمارس العناد، والشغب، والمكر، طفلة لم تستعدّ بعد لأنّ تصير أمًّا!
مرّ المخاض سريعًا وكأنّ كل ذلك الألم كان مجرد كابوسًا قصيرا بشعًا، مرّالمخاض على عكس ماتوقعت، وعلى غير ماتحكيه النساء من أساطير مرعبة، وكأنّ الرحمات الإلهية كانت تطوّقنا أنا وأمي والرضيعة الصغيرة!
وما أن مرت أيام قليلة على الولادة حتى بدأت هرمونات السعادة تغادرني شيئا فشيئا،وبدأتُ خوض المعركة بحقّ، بدايةً من الرضاعة الطبيعيّة، وحتّى بكاء الرضيعة الذي يكاد لا ينتهي..
لم تستوعب ابنتي على ما يبدو فكرة انفصالنا،كانت تظنّ بأننا لازلنا ملتصقتين في جسدٍ واحد!
جلّ ما تهدف أن تخبرنا إيّاه مرسال في هذا الكتاب أن مشاعر الذنب والتقصير طبيعية جدًا، وأنّها ناتجة من توهم وجود المثالية، أو قد تكون بسبب التاريخ الشخصي السابق على الأمومة. وهذا تحديدًا ما نحن بحاجة ماسّة إليه، هو أن يفهم المجتمع “أمومة الهامش” تلك الأمومة المهمّشة البائسة، وأن يعي أيضًا أنّ للأمومة جانبًا مظلمًا وصورًا شاحبة تختلف تمامًا عن تلك الصورالمشرقة المثاليّة ،والمقدّسة، التي تظهرها لنا المؤسسات الإعلامية أو الدينية.
ثمّ تكمل مرسال سردها الحميمي عن تجربتها العلاجية في مستشفيات كندا ،وكيف استطاعت وسائل الطبّ الحديثة أن تحتضن الأمهات بالوعي وأن تلفهنّ بالرعاية اللازمة.
لكن ماذا عن أولئك النساء البسيطات المهمّشات اللواتي لم يحالفهنّ الحظّ في تقبّل المجتمع لفكرة إحتياجهن للعلاج النفسيّ، أو أن يستوعب هذا المجتمع ذاته شبح الاكتئاب الأمومي، على أنه ليس ضربا من الجنون أو الإخفاق!
كيف يحدث لتلك الفئة من الأمهات الخلاص أو النجاة من دوامة الذنب ومن كل تلك الأفكار السوداء البغيضة التي تقضّ مضاجعهنّ؟!
بعدها تأخذنا مرسال في رحلة عجيبة من التأمّل، تأمّل الصور الفوتوغرافية لأمّهات كثر ، وأولها صورتها الوحيدة مع أمها.
فتقول: “بالنسبة للطفلة التي كنتها، كان على هذه الصورة أن تكون توثيقًا للحظة التي وقفت فيها للمرّة الأولى والأخيرة بجانب أمي في استوديو دون أن أعرف أنّها ستموت بعد ذلك بأقل من شهرين.”
من المؤسف جدًا أنّ تفاصيل الأسى والفقد وندوب الطفولة تعود لتطفو على السطح من جديد كل ما صارت الواحدة فينا أمَّا ..
حقيقة لا أتأمّل صوري مع أمي كثيرًا، خوفًا من تلك التفاصيل الطفولية الصغيرة أن تعود لتهاجمني مجددا، لكنني أذكر أنني تأملتها هي كثيرًا عندما كانت ترقد في ذات الغرفة التي كنت أنام فيها خلال مرحلة النفاس، كنت كل ما أصحو ليلاً تُرهقني الهواجس، ماذا لو رحلت أمّي إلى الدار الآخرة؟ ماذا لو اختفت إلى الأبد؟ من سيكون معي في ولادتي التاليّة؟ كيف سأواجه كل هذه الأشباح بلا سلاح ، بلا أمّ ؟!
وللأسف حدث كل ما كنت أخشاه، فقد رحلت روح أمّي الطيبة إلى بارئها بعد ولادتي لابنتي الأولى بثلاثة أشهر فقط! وتركتني حائرة أواجه معركة الأمومة لوحدي..
لم ألجأ يومًا لجلساتٍ علاجيّة كما فعلت مرسال، بل كنت أقاسيّ كل الالام النفسيّة في شقةٍ صغيرة وسط مدينة مزدحمة بغيضة، وكنت كلّ ما اختنقت نخرج أنا وابنتي في نزهة قصيرة إلى الحديقة القريبة من مكان سكننا، أجلس على الكراسي الخشبية ثابتة مثل الأشجار، أراقب الطفلة كيف تجري خلف القطط، وكيف تلهو بالأزهار،وكيف تقطفها قطفًا مروّعًا، كنت في تلك الحديقة أجلس باسِمة صامتة صمتًا مطبقًا، محاولة أن أبرهن لنفسي وللعالم أننّي أعيش أمومة صحيّة طبيعيّة.
تكمل مرسال الكتاب في الحديث عن مرجعيّة الأمومة، رعب الفطام، و صراع الأمّ الكاتبة الذي لا يشبه صراع أي أمّ أخرى فتقول: ” فعندما تنجح الكاتبة في أن تكون أمّا ليوم سشتعر بالفشل تجاه ما لم تنجزه من قراءة أو كتابة، وعندما يكون لديها يوم لنفسها ستتألم من أنانيتها. عندما تستطيع في يومٍ ثالث أن تكتب بينما يجلس طفلها على ركبتيها وأن تلعب معه لعبة الاستغماية بينما تفكّر في تغيير كلمة في قصيدة. لا توجد ضمانة أنها لن تشعر بالذنب أو الفشل في فعل ذلك”
كمية المشاعر الصادقة والأفكار الواعية والتحليلات النفسية التي تطرحها مرسال في هذا الكتاب الصغير كفيلة بأن تساعد أي أمٍ في فهم ذاتها، واستيعاب أمومتها كحالة فرديّة وتجربة خاصّة بها، بل ستدفعها بكل قوة وشجاعة لأن تسرد حكايتها مع الأمومة بلا خوفٍ أو ترددّ.
أخيرًا أقول لكل أنواع الأمّهات بلا استثناء، كما قالت إيمان مرسال: “ستبدأين بعد الولادة رحلة مع كائن يفترض أنه جزء منك ولكنه قد يبدو غريبًا أحيانًا. مع كل خطوة في هذه الرحلة سيداهمكِ سؤال جديد وكأنه عليكِ اختراع أمومتك منذ البداية، كأنّها لم تحدث لأحدٍ من قبلك، كأنها اختبار لا نهائي لوجودكِ الشخصيّ ذاته، لعلاقتكِ بجسدك أولاً ثم لعلاقتكِ بكلّ ما كنت تظنين أنّه أنتِ ثانيًّا.”