الصحوة – فاطمة حمدان السالميّة
ربما في هذا اليوم مرتْ عليك أفكارٌ كثيرة لم تنتبه إليها، كما أنه مر عليك حوار بينك وبين ذاتك لم تُعره اهتمامًا أيضا، هذه الأمور التي تأتي إلى ساحة الذهن كالبرق تأتي مُسرعة، وأغلب الناس لا ينتبهون لها، يقول جورج ستاينر: “هناك عمليتان لا يُمكِن للإنسان إيقافهما ما دام هو حيًّا؛ تنفُّسه، وتفكيره. في الحقيقة، إننا نستطيع إيقاف تنفُّسنا فترة زمنية أطول من قُدرتنا على إيقاف أفكارنا. ومن ثَم، فإن هذا العجز عن إيقاف أفكارنا هو قيدٌ مُخِيف”. الأفكار التلقائيّة لها تأثير في السلوك، والحالة العاطفيّة، والشعور، وحتى على الدماغ نفسه. هل تساءلت عن ماهية هذه الأفكار؟ وما مصدرها؟
خطورة الأفكار التلقائّية
تُشير د. جوخة محمد الصوافيّة (أستاذ الإرشاد النفسيّ المساعد في قسم علم النفس بجامعة الشرقيّة) إلى أن الأفكار التلقائيّة بعضها إيجابيّ، والآخر سلبيّ. الأفكار الإيجابيّة جيدة، ولا تشكل أي خطورة، أما الأفكار التلقائيّة السلبيّة تشكل خطورة في حالة واحدة فقط عندما يقف الفرد معها ويركز فيها؛ ستتحول في تلك الحالة من فكرة تلقائيّة إلى معتقد يؤثر على مشاعرنا، وسلوكاتنا، وقد تتحول عند بعض الأشخاص إلى أفكار وسواسيّة.
إن خطورة الأفكار التلقائيّة من رأي التربويّ د. حميد بن مسلم السعيديّ (أستاذ مساعد سابق بجامعة الشرقيّة، ورئيس تحرير مجلّة إشراق) تكْمُن في التأثير على ذات الفرد وقدرته في الإنتاج المعرفيّ والمؤسسيّ، ومدى قدرته على بناء العلاقات الاجتماعيّة الفاعِلة في المجتمع أو المؤسسة التي يعمل فيها، إذ إن أغلب تفسيراته للمواقف تكون سلبيّة إذا لم يَتَمْكّن من بنائِها في ضوء المنطق القائم على الأدلة، وهذا هو الشائع لدى عامة الأفراد؛ لذا ترتفع نسبة الإشكاليّات المجتمعيّة نظير غياب العقل في تفسير المواقف وتَغْلُبُ العاطفة القصيرة المدى في التفسير السلبيّ للأحداث؛ مما يُشْعِر الفرد بالقلق، والضيق، والكُرب، ويدْخل في إشكاليّات نفسيّة قد تستمر لفترة طويلة؛ مما يتطلب معه التدخل العلاجيّ النفسيّ، وبعض هذه الأفكار قد تتجه إلى التَقْيِيم الذاتيّ، والشعور بالإحباط نظير وجود أفكار سلبيّة تُحطم من قدرات الفرد، وتنمي لديه تَقْيِيم سلبيّ عن القدرات الذاتيّة؛ مما يؤدي إلى وجود فرد غير منتج وغير قادر على مواجهة التحديات، وشعوره بالإحباط لفترة طويلة يؤدي إلى التحطيم الذاتيّ.
ويؤيد الأستاذ سُليمان عبدالله الكلبانيّ (اختصاصيّ نفسيّ بمركز زلفى) أن خطورة الأفكار التلقائيّة ينتج عنه تعْكّر المزاج، والنظر إلى الموقف بطريقة سلبيّة، وقد تكون أفكار غير واقعيّة، والأكثر من ذلك قد تُسبب بعض الاضطرابات النفسيّة، مثل: الاكتئاب.
خصائصها
سريعة وبسيطة، تأتي إلى عقِلنا نتيجة مُثير معين كحدث ما، أو صوت، أو رائحة، أو ذكرى معينة أو كلمة (لا)، وأحيانا تأتي إلى عقلِنا دون أي مؤشر أو مُثير مباشر مرتبط بها هكذا بيّنتْ الصوافيّة.
إلى جانب ذلك أضاف الكلبانيّ قائلًا: “تكون حاضرة في كل المواقف، وظهورها تلقائيّ لا إراديّ، بعضها يتكرر بسرعة، مثل: الأفكار الوسواسيّة”.
يرى السعيديّ أن الأفكار التلقائيّة مرتبطة بالجانب النفسيّ لا سيما عندما يغْلُب الجانب العاطفيّ في تفسير المواقف؛ نتيجة الانفعالات النفسيّة، وعدم القدرة على ضبط النفس، وأيضا غياب الجانب العقلانيّ في تفسير المواقف، والتركيز على تفسيرات نفسيّة لا ترتبط بالواقع المُعاش. علاوة على ذلك النظرة التشاؤميّة تجاه الحياة اليوميّة، والتَقْيِيم السلبيّ للقدرات الذاتيّة، والخوف من البحث عن الحقيقة لأنها تتطلب المزيد من البحث، والتقصي. إلى جانب ذلك تراجع إنتاجية الفرد سواء أكان الإنتاج ذاتيّ أم مرتبط بالقدرة على التفاعل الإيجابيّ مع المؤسسة، أو التعاون مع المجتمع.
لذا يصبح التدخل العلاجيّ النفسيّ مهمًّا جدًّا في هذه المرحلة؛ من أجل تحقيق المُعَالَجة المُناسبة التي تُحقق للفرد التعايش الاجتماعيّ، وكذلك تَقْبّل اختلافات الآخرين، والقدرة على التعاون، والمشاركة في المؤسسة التي ينتمي إليها، إذ لا يُمكِن بناء علاقات وظيفيّة فاعلة إن لم يكنْ لدى الفرد القدرة على التكيف، والتعايش بتوظيف المنطق في تفسير المواقف اليوميّة في حياته.
طريقة التعامل معها
الكلبانيّ يوضح أنه باستطاعتنا فهمها من خلال مراقبة أفكارنا في المواقف، وخصوصًا المواقف التي تُسبب لنا عُقد نفسيّة. مراقبة ما دار في الذهن أثناء الموقف الذي تعْكّر المزاج بسببه، والتأكد من صحتها، وواقعيتها، ونتعامل معها من خلال تَقْيِيمها إن كانت صحيحة أو لا بالبحث عن دليل على صحة الفكرة، أو دليل على عدم صحة الفكرة، وإعطاء أفكار واقعيّة بديلة.
وتقول الصوافيّة: “أننا نتعامل مع الأفكار التلقائيّة كوننا مُعالجين بالعلاج المعرفيّ السلوكيّ للفرد بحصر المواقف التي يَشعُرُ فيها بضيق أو ألم نفسيّ، بعدها نركز على الأفكار التلقائيّة التي وَرَدتْ في ذهنه أثناء وقوع الحدث، فنربط المشاعر المتمثلة في الخوف، والضيق، والقلق، والتوتر بالفكرة التلقائيّة التي أُلقيتْ لديه، بعد ذلك نجمع الأفكار التلقائيّة السلبيّة المتشابهة مع المريض لِنَتَمْكّن من الوصول بعمق إلى المعتقدات الوسيطة والجوهريّة التي عادة تكون بها تشوهات معرفيّة عند الفرد، هذه التشوهات هي التي تسبب الانفعالات السلبيّة، والتي بدورها تؤدي إلى السلوكيات السلبيّة”.
وتضيف قائلة: “نطلب من الفرد تجاهل الأفكار التلقائيّة السلبيّة أو وسواسيّة عن طريق تمارين معينة، مثل: جدول حصر الأفكار، الأسئلة السُقراطيّة، التثقيف النفسيّ، فنية استخدام الألفاظ العقلانيّة لمهاجمة الأفكار السلبيّة، جدول للأنشطة المرحة، ولا يحاول محاربة الأفكار السلبيّة، لأن محاربتها بصرفها من ذهن تؤدي إلى نتيجة عكسيّة؛ وهي تركيزها أكثر”.
ختامًا، يُعدّ علاج الأفكار التلقائيّة مدخلًا للتحكم والسيطرة في المشاعر السلبيّة، ويُعدّ الاستماع إلى الأفكار التلقائيّة الخطوة الأولى للتحكم في المشاعر السلبيّة، فمعظم الحوارات الداخليّة التي يقوم بها الشخص مع ذاته لا تسبب له أي أذى، علمًا بأن الأفكار التلقائيّة يُمكِن تحديدها، لأنها دائمًا مسبوقة بشعور متواصل بالألم، ولتحديد الأفكار التلقائيّة التي تُسبب هذا الشعور المتواصل بالألم، حاول أن تسترجع تلك الأفكار التي كانت تُراودك قبل بداية إحساسك بهذا الشعور، وكذلك الأفكار التي تصاحب هذا الشعور المستديم الذي تَشعُر به، بإمكانك أن تعد الأمر كما لو أنك تستمع إلى جهاز اتصال داخليّ، إن جهاز الاتصال الداخليّ مفتوح دائمًا حتى وإن كُنت تتحدّث مع الآخرين، وتمضي في حياتك كالمعتاد، أنصت إلى جهازك الداخليّ، وافهم حوارك الذاتيّ مع نفسك، واستمع إلى ما تقوله، لأن الأفكار التلقائيّة تُطفِي المعانيّ الخاصة على العديد من الأحداث الخارجيّة، والأحاسيس الداخليّة، كما أنها تُصدر أحكامًا، وتفسيرات طِبقًا لخبراتك.