الصحوة – إسحاق السعيدي
تدخل الإبادة التي تمارسها قوى الظلم والعنصرية على غزة شهرها الرابع، وسط تواطئ من المجتمع الدولي المزعوم، وغزة تُذبح من الوريد إلى الوريد، نعم، غزة تُذبح ذبحًا، وتَرفس مقاومة الموت الحتمي؛ لأن هناك من يعتقد أنه غير مسؤول عن نصرة غزة، ويظن أن صمود غزة وثبات شعبها كافيَين لوقف العدوان للغاشم.
غزة تموت ببُطْء وسط خذلان مريب، وليست كما يصورها البعض – عن حسن قصد ربما -: مجاهدين أسطوريين، ورجال يحبون الشهادة، ونساء خنساوات، وأطفال بلا أحلام، يقول أهل غزة إن صمودهم نابع من عزة لا يريدون بها إظهار انكسارهم، نكاية بالاحتلال الذي يُمعن في قتلهم وتشريدهم حتى يراهم خاضعين خانعين له، لا أسطورية يتاجر بها البعض كي يعفي نفسه من مسؤولياته الدينية والقومية والإنسانية.
إن الحقيقة المرة التي لا يحب سماعها كثير ممن اعتبروا أنفسهم متضامنين مع قضية الشعب المقهور، أن غزة تحكمها نفس السنن الكونية التي تجري أحكامها على باقي أنحاء الكوكب وبقية شعوب العالم.. عندما تحتدم المعركة، تحتاج إلى تقارب في القوى، وتشابه في العتاد، وتماثل في النصرة.. فمهما كانت مقاومة غزة أسطورية، فإنها يمكن أن تنهار وسط ضربات البر والبحر والجو، وعشرات آلاف أطنان المتفجرات، ومها كان شعبها صامدًا، فإنه يمكن أن ينكسر في ظل وحشية همجية نادرة في تاريخ الإنسان، ومهما كان هناك مؤمنون، فإنهم يمكن أن يضعفوا تحت وطأة القصف والتشريد ورائحة الموت، كل ذلك يمكن أن يحدث، حقيقة وليست مجازًا، لأن “المتضامنين” لم ينصروا غزة إلا بالشعارات!
فشعب غزة من البشر لا الملائكة، وقطاعهم قطعة في الأرض لا في أفلام مارفل، ويعيشون رعبًا حقيقيًّا لا متخيلًا، صحيح أن “فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله” لكنهم “مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ” و”أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ”، ليسوا قطاعًا يحارب استكبارًا عالميًا، وليسوا بضعة آلاف يقاتلوا أضعافًا كثيرة، وليسوا محاصرين مضطرين لكسر حصار القريب قبل البعيد، هي سنن كونية لا تتبدل إلا باتخاذ الأسباب، والمعجزات لا تنصر إلا من نصرها.
تحكي الكاتبة والروائية نردين أبو نبعة عن خنساء فلسطين، أم نضال فرحات، أنها استقبلت واحتضنت المطارَد وقتها من قبل الاحتلال، الشهيد عماد عقل، في وقت كان المجاهدون المطارَدين يُرفضون من قبل أهليهم وأقربائهم، لشدة خطورة إيواء المطلوبين لدى الاحتلال، فليست كل نساء غزة أم نضال، وليسوا كل رجال غزة هم عماد عقل، وليسوا كلهم فدائيين يعشقون الفناء، فكثير منهم يحبون الحياة أكثر من الموت، ولدى أغلبهم أحلام مشروعة في حياة أكثر رفاهية من حصار جائر يشارف عامه العشرين.
وهذا وضع طبيعي بالمناسبة، حالة طبيعية جدًا، أن يكونوا بشرًا بمشاعر وأحاسيس وأحلام وطموحات وتطلعات، فبعيدًا عن نرجسية المتاجرين بصمود غزة، الذين لا يريدون إلا أن يروها شاذة بمقاومتها للاحتلال منفردة، تُسيل دماءها وحدها دفاعًا عن أمة متخاذلة، فشعبها يحب الحياة أكثر من أي شعب آخر، ولا أدل على ذلك من مقاومتهم للاحتلال، فهم لا يقاومون حبًّا للموت، ولا يقاتلون حبًّا في الحرب، بل هو التوق للحياة الهانئة المستقرة، وطلبًا للسلام من دون احتلال يكدر صفو حياة مشروعة.
كل هذا ليس استنقاصًا من جبروت غزة ومجابهتها للعالم بأسره؛ لكنه لوم لكل متخاذل ظن أنه معذور عن نصرتهم، وأخذ يتفرج عليهم ينتظر نصرًا يريح ضميره، ويدعو لهم ودعاءه لا يتجاوز سقف حجرته أو محرابه، ظانًا أن التأييد الإلهي يأتي بالبكاء عليهم والشفقة لهم!
كما أن صورة صمودهم ليست للاحتفاء والبهجة، ولوحة مقاومتهم ليست لإعلان النصر والفرحة، بل هي مسؤولية علينا للنصرة، وحجة علينا لواجب التدخل والمساندة، فمن لم تحركه الدماء التي تسكب كل ساعة، خاب الأمل منه في خطو خطوة نحو التحرير، وضاعت إنسانيته بين الدماء.