الصحوة – إسحاق السعيدي
لم يكن يتخيل أشد المتشائمين من ردة الفعل الصهيونية على عملية طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر المجيد، أن يستمر الكيان الغاصب في إبادة غزة لنصف عام متواصلة، ولا يكتفِ بذلك، بل يتوعد بأشهر أخرى طويلة يستمر فيها الذبح وسط دعم غربي كامل لمخطط التهجير، وتواطئ سياسي عربي لمخطط اقتلاع جذوة المقاومة في فلسطين، وعجز شعبي إسلامي عن فعل ما يلزم تجاه المحرقة، وما لا يلزم أيضا!
بل يمكن القول بأن قادة فصائل المقاومة قد بالغوا في تقدير التفاؤل بردة الفعل العربية والإسلامية على عملية اقتحام المغتصبات وأسر مصاصي الدماء، يتضح ذلك جليا في خطاب محمد الضيف، قائدة هيئة الأركان بكتائب عز الدين القسام، عندما دعا للنفير العام من كافة الأقطار العربية والإسلامية، بل وسمى دولا وأقطارا بعينها، في خطابه المسجل ضحية السابع من أكتوبر.
لكننا في زمن شاع فيه استخدام أنواع من المخدرات والمسكنات (غير المجرّمة)، التي حُقن بها الشارع العربي وقدرته على ردة الفعل، ولا زال يحقن بها منذ الربيع العربي قبل ما يزيد عن عقد من الزمن، حتى يظهر المشهد البائس الذي نعايشه الآن: أنظمة خائفة على عروشها من شعوبها لا من أعدائها، تفعل المستحيل لئلا يتكرر مشهد السقوط المدوي على حين غفلة، وشعوب مروضة قُصصت جنحانها وبترت أطرافها وشُلت عن الحركة، بعد أن أُذيقت أصناف العذابات يوم أن قالت ذات مرة: لا.
المخدر السياسي العربي
لعب الخطاب الرسمي العربي دور المخدر الإنساني الذي لا ينفك إصدارا لبيانات الشجب والتنديد، والبكاء على أطلال إنسانية الفلسطيني المنتهكة، وكأنه ناشط سياسي أتى من أقصى الكوكب، دون أن يحرك شبرا باتجاه فعل سياسي أو قانوني يوقف الإبادة الجارية في أرض جوار، تتداعى آثارها إلى كل المحيط العربي والإسلامي، كما لم ينفك هذا الخطاب عن لعب دور الجمعيات الخيرية، الجابية لأموال الشعوب بالخير والشر، عله يضفي جانبا إنسانيا على خذلانه أو تواطأه مع الجريمة الحاصلة، دون أن يتحرك خطوة باتجاه حصار اقتصادي أو ثقافي للكيان الغاصب.
بل على العكس، شاهدنا دولا تعدى دورها التواطؤ مع كل الجرائم التي فاحت رائحتها أنحاء العالم، لتعمل كشريك حصري في المذبحة، سواء بدور حصار غزة وأهلها المكلومين، أو العمل على الإمداد الغذائي وبعضها العسكري للكيان، في ظل الأزمة الخانقة التي تعيشها دولة الاحتلال على صعيد إغلاق موانئها نتيجة الحصار اليمني في البحر الأحمر، والحصار اللبناني على مستوطنات الشمال (السلة الغذائية للكيان)، وغطت مشاركتها المتفردة في المجزرة – التي خجلت منها دولا غربية داعمة للكيان – من خلال لعب دور في مسلسل الإنزالات الجوية، التي يسميها أهل غزة المجوعين: الإذلال الجوي، وهو دور يليق بهم كمكافئة إسرائيلية على مشاركتهم في معركتها الوجودية.
المخدر الديني
نشهد اليوم آثار تربية دينية كارثية تعرضت لها المجتمعات الإسلامية عبر عقود، جرى تفريغها من أبعادها السياسية والاجتماعية والدينية الحقيقية، بمساعدة علماء ووعاظ خدموا السلطة في تحجيم دور المجتمعات – أدركوا ذلك أم لم يدركوا – من خلال اختزال الدين في طقوس وشعائر تؤدى داخل دور العبادة، وقليلا ما كان خارجها، أدت إلى غياب مفاهيم الأمة والنصرة والجهاد وغيرها من المنشطات التي تحرك المجتمعات، ولا تركنها رهينة لرغبة الإسلام الخاوي المسيس، المدعوم من قوى وطنية – للأسف – أكثر من القوى الغربية.
يشير إلى ذلك بوضوح الدكتور أيمن السالمي، الطبيب العماني الذي غادر إلى غزة نصرة للمستضعفين، في مقابلته عبر “بودكاست جلسة كرك”، حين أشار إلى تأثير هذه التربية الدينية الخاملة على اختفاء تحركات الناس نصرة لغزة، بل وصول تأثيرها إلى بعض من أهل غزة، وهم أهل ثغر ورباط، تقاعسوا عن حمل السلاح وهم أهل له، اعتقادا أن الله سينصرهم بإيمانهم وتقواهم فقط!
قال الشيخ صلاح حازم أبو إسماعيل – فك الله أسره – تعقيبا على انتشار مفاهيم “انصروهم بالدعاء” و”ليس لنا إلا الدعاء” بأن الدعاء لا يقبل في حال التقاعس، وقالها صراحة: “متدعوش لأهل غزة” معللا ذلك بأنه مخدر نفسي يبعث في النفس طمأنينة زائفة، تمنع من تقديم النصرة الحقيقية، مستشهدا بحديث النبي – عليه الصلاة والسلام – ” والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم” وخير الأمر بالمعروف: “كلمة حق عند سلطان جائر”.
وهذه مفاهيم شكلت صلب الدين الذي أمر بالتوكل لا التواكل، أمر باقتران العمل مع الدعاء، لا الفصل بينهم، لكنها غيبت قصدا أو سهوا، لتظهر لنا مجتمعات مستكينة لا تحركها الدماء، ولا تستشيط من انتهاك حرمات الله، في ترويض واضح للجماهير المسلمة.
المخدر الإسرائيلي – الأمريكي
لم تكتفِ إسرائيل بجرائمها الفظيعة ضد أهل غزة منذ أكثر من 200 يوم، بل وتتفنن في صنوف القتل والإجرام، ذلك أن لديها شيكا أبيض من أمريكا وباقي العالم المتحضر للمواصلة في إراقة شلال الدم دون حسيب، ومع ذلك، فإنها وبتعليمات من “الماما” أمريكا، عمدت إسرائيل العمل على وصفات تخدير نفسي وإعلامي لتخفيف وطأة بيانات الإدانة الدولية التي تتلقاها من كل حدب وصوب، ليس لأنها خجلة من إجرامها، بل لأن أمريكا تخاف على صورة ابنتها المدللة أمام العالم، وتحرص عليها وعلى مستقبلها أكثر من فتاتها المراهقة، لذلك كان الحل في تقليل حدة القتل الجماعي، مع الموافقة على إطالة أمد الحرب دون نهاية واضحة المعالم والأهداف.
والشواهد على ذلك كثيرة، لعل من إصداراتها مجازر الطحين عند شارع الرشيد ودوار النابلسي في غزة، فعندما دخلت بعض شاحنات الطحين إلى شمال القطاع لأول مرة بعد أسابيع من الحصار والتجويع المتعمد، كان التحضير الصهيوني لمجزرة عند أماكن تجمهر الجوعى في إصرار واضح على خطة التهجير لمن تبقى من سكان القطاع في شمال غزة، حصدت تلك المجزرة أرواح أكثر من 100 شهيد مجوّع، ومئات آخرين من المصابين، وقتها عبّر المجتمع الدولي بكل كياناته الداعمة والمتواطئة مع الكيان عن صدمتهم وغضبهم مما حدث، منددين بالمجزرة، مطالبين الكيان بالتحقيق لما حدث، ويقصدون مطالبتهم إياه بالاقتصاد في القتل، حتى يستمر أمد الإبادة دون ضجيج!
وبالفعل هو ما كان، سجلت وزارة الصحة بغزة بعد تلك المذبحة الكبرى أكثر من 7 مجازر استهدفت تجمعات المجوّعين، لكن ضحايا كل مجزرة منهن لم تتعد الـ 50 شهيد في أسوأ الأحوال، وهذا هو المعدل المقبول دوليا الذي لا يضطره لإصدار بيانات الشجب والتنديد في كل مرة، ألا يتعدى ضحايا مجموع مجازر اليوم الواحد 100 شهيد، وما دون ذلك فهو الحد المستساغ في المجتمع الدولي، وهو خلاصة الضغط الأمريكي على إسرائيل.
وعلى الرغم من الجرعات الكبيرة المستخدمة في جرائم التعاطي السابقة، إلا أن هناك من قرر أخيرا الإقلاع عنها بعد نصف عام من الإدمان عليها، فبدأت صحوة عربية شعبية، برزت ملامحها في الأردن، وهي مستمرة في حراكها منذ أسابيع رغم التضييقات وحملات التشويه، وحراكا آخرا في المغرب، ومحاولات مصرية رغم التقييدات الكبيرة، وصولا إلى عواصم عربية أخرى، غضبا لغزة، ونصرة للأقصى.
لا أعرف على وجه الدقة ما تفسير هذه الاستفاقة الشعبية المتأخرة، إلا “أن تصل متأخرا، خير من ألا تصل” وهي شاهد على غليان شعبي كبير لم تشأ ظروفا كثيرة أن يطفوا على السطح، لكن في علم النفس والاجتماع، لا يُعرف من أين تظهر “القشة التي تقصم ظهر البعير” لتكون استكمالا لمسيرة طوفان الشعوب في دولا غربية كثيرة، واضبت على نشاطاتها منذ 7 أشهر، ووصلت لأوجها في طوفان الجامعات الأمريكية، لتظهر نتائجها المتأخرة، بعد أن سقطت أولى أحجار الدومينو على الكيان الصهيوني، باستهدافه المتجبر لسبع عمال أجانب من فريق المطبخ العالمي، ثم ضربه بغشامة القنصلية الإيرانية في دمشق، لتكون أحداثا مفصلية، ربما تجعل إسرائيل في عزلة دولية غير مسبوقة، وقد تُوقف غزوا محتملا على رفح، علها تكون الإشارة الأخيرة لبشرى انتهاء الهولوكوست الصهيوني على غزة.