الصحوة – الدكتور حمد بن ناصر السناوي
يقول أحد الزملاء “عندما كنت صغيرا كان في بيتنا قفصا كبيرا للعصافير، وفي عصر أحد الأيام وبينما كنا نلعب في فناء المنزل العصافير تملأ المكان صخبا بزقزقتها، فجأة سمعنا صوت اصطدام جسم على الأرض، سقط أصغر إخوتي” ماجد “الذي يبلغ من العمر أربعة أعوام من شرفة إحدى الغرف في الطابق الأول بينما كان يشاهد الطيور ويلوح لها.
دب الرعب في قلوب الجميع وعلا صوت البكاء والصريخ ولم تفلح محاولات رجال الإسعاف في إنقاذه ففارق الحياة، وعندما عاد أبي من المقبرة قام بذبح جميع العصافير، ولم يتحدث إلى والدتي وعندما عاتبته أنفجر في وجهها قائلا” لولا إهمالك لما وقع الصغير “، في تلك الليلة وقع الطلاق بينهما، غادرت أمي إلى بيت والدها ولم يطق والدي البقاء في المنزل الذي يذكره بالحادثة، انتقلنا إلى منزل آخر دون شرفات ولم نعد نلعب في فناء المنزل ولم تعد للفرحة مكانا بيننا، منعنا والدي من الاحتفاظ بالعصافير ومن مشاهدة مسلسل الأطفال الكرتوني” الكابتن ماجد” لأنه يذكرنا بالمرحوم، انطفأ شيئا في داخلنا ولم تعد حياتنا كما كانت.
يعتبر علم النفس وفاة أحد الأبناء من أكثر الحوادث التي يصعب تجاوزها وتزيد احتماليه إصابة الفرد بالأمراض النفسية بعد فقدان أحد الأشخاص المقربين إليه، ورغم أن الكثيرين يستطيعون تجاوز تلك الأزمة والتعايش معها يجد البعض صعوبة في التخطي خاصة إذا كانت الوفاة فجائية، فتظهر لديهم بعض أعراض ما يسمى ما بعد الصدمة مثل التفكير المستمر واسترجاع تفاصيله الحدث المؤلم نفسيا كأنه يحدث مرة أخرى. والشعور بالقلق الشديد وكثرة الكوابيس التي يستيقظ منها الفرد مرعوبا ولا يستطيع العودة إلى النوم، ومحاولة تجنب التفكير في الحدث المؤلم وتجنب الأماكن أو الأنشطة أو الأشخاص الذين يذكرون بذلك الحدث، ويعاني البعض من التغيرات السلبية في التفكير والمزاج والشعور باليأس وصعوبة على العلاقات الوثيقة والشعور بالانفصال عن العائلة والأصدقاء وفقدان الشغف بالأنشطة التي طالما كان يستمتع بها، والشعور بالتبلد العاطفي ونوبات غضب وسلوك عدواني والشعور بالذنب وصعوبة التحمل وقد يلجأ البعض إلى تعاطي المخدرات أو الكحول هربا من مواجهة تلك المشاعر، لتفادي تلك المضاعفات يقترح الطبيب النفسي بعض السلوكيات التي يمكن أن تساعد المصاب باضطراب ما بعد الصدمة مثل على الروتين والعودة إلى الحياة الطبيعية، والتحدث مع شخص يثق به يساعده في تقبل مشاعره ضمن مساحة آمنة بعيدا عن النقد وإطلاق الأحكام. أحيانا قد يساعد التحدث مع شخص خاض نفس التجربة لكونه أكثر على تفهم مشاعر المصاب وتقديرها، كما تساعد تمارين الاسترخاء والتنفس العميق في تقليل أعراض التوتر والقلق. أحيانا يساعد العودة إلى مكان وقوع الحدث الصدام عندما يشعر الفرد بأنه على اتخاذ هذه الخطوة، ورغم توفر العلاج النفسي الذي يمكن أن يساعد الأفراد في التعامل مع المشاعر المصاحبة لمثل هذه الأزمات إلا أن البعض يتردد في طلب الاستشارة ربما بسبب وصمة العار والخوف من أن يتهم بضعف الإيمان أو بالجنون،.أو وربما لأنه يعتبر التخلي عن ذلك الحزن تقصيرا وخذلانا للشخص المتوفي، ولا تقتصر الأعراض على فرد واحد بل تمتد إلى بقية أفراد الأسرة ومنهم الأطفال الذي يعجزون عن التعامل مع المشاعر المختلفة التي يعيشونها، وقد يؤدي انغماس الوالدين في الحزن على الطفل الذي رحل إلى إهمال بقية الأطفال وعدم الانتباه إلى التغيرات السلوكية التي قد تظهر لديهم نتيجة لعدم قدرتهم على التعامل مع الحزن، يقول أحدهم توفي أخي فجأة وأنا في الثامنة من العمر فقام والدي إخفاء جميع صوره أغراضه وكأنه لم يكن موجودا، حزنت أمي حزن شديد ولم تعد تهتم بوجودي ولا تسأل عن درجاتي الدراسية فقمت بالسرقة من البقال المجاور لمنزلنا رغم أنني أحصل على مصروف جيد، لم أكن بحاجة للمال فقط أردت أن أحصل على انتباه والدتي التي لم تعد تنتبه لوجودي.
ختاما فإن الانتباه للتغيرات السلوكية التي تظهر على الأفراد الذي يعيشون تجارب مؤلمة وتقديم الدعم المناسب يمكن أن يقي من الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة.