الصحوة – نصر بن منصور الحضرمي
لم أره قادًما من بعيد، ولكنني أدركت على الفور أن صوت هاتفي هو نداء للمغامرة. في لحظات، ارتسمت على وجهي ابتسامة واسعة تخفي بداخلها حماسًا وترقبًا لما سيأتي.
كان صديقي متحمسًا وحاسمًا في طلبه، وقد أخذني ذلك على حين غرة. لم أكن قد فكرت من قبل في زيارة أذربيجان، ولكن حين ذكر لي الرحلة، شعرت بأن هناك قوة خفية تجذبني إلى هناك. ربما كان ذلك الفضول، أو ربما الرغبة في اكتشاف عالم جديد.
دون أن أفكر كثيرًا، وافقت على الفور. لم أسأل عن التفاصيل، ولم أتردد لحظة واحدة. كنت كالطائر الذي حلق بحرية نحو الأفق المجهول، دون أن ينظر إلى الوراء. في تلك اللحظة، كل ما كان يشغلني هو الشوق للمغامرة والاستكشاف.
ها قد حان وقت الرحيل. أشعر بالحماس والترقب، وأنا على استعداد لاستقبال كل ما ستحمله تلك الرحلة من مفاجآت وتجارب جديدة. سأكون مستعدًا لكل ما قد يأتي، وأتطلع إلى اكتشاف جمال وثراء هذه الدولة التي لم أزرها من قبل.
بين جنبات الحياة الراكدة، يتسلل دائمًا وميض الإثارة والتغيير، كالشرارة التي تخترق الظلام البالي. وهكذا كانت قصتي، إذ انْدّست من بين ثنايا روتيني اليومي رحلة لم تكن في الحسبان، رحلة كادت تمر مرور الكرام لولا تنبيه صديقي المخلص.
فحين رأيت تلك الرسالة البريئة في الواتساب، انتفض قلبي وكأنه استمر لثوان كامل في تداعيات الصراع بين الخوف والإقدام. لم اتوان لحظة في الاتصال به مستفسرًا عن تفاصيل الرحلة، وهناك تبدد جزء من قلقي واستبشرت بما سمعته حين قال لي “الأمور طيبة، لا تقلق”.
وها هي اللحظة المرتقبة قد وصلت، وتواجدت مع صديقي في مطار مسقط الدولي، وما إن غادرت طائرتنا الأرض حتى بدأت تتأجج في نفسي شرارات الحماس والترقب لاكتشاف هذا البلد الجديد. وبالتأكيد تخيلتُ مشاهد صور أجمل وأجمل لما ينتظرني في باكو، إلا أن إعلان كابتن الطائرة عن بدء الهبوط التدريجي كان كالصفعة على وجه تلك الفرحة المنتظرة.
لم اعد اشعر بتلك الحماسة المعتادة لدى وصول المسافر إلى وجهته المنشودة. بل إن إعلان الأحوال الجوية قد أضفى على الموقف طابعًا آخر غير متوقع، كأنما كنت على موعد مع شيء آخر غير ما كنت اتخيله.لست ادري ما هو السر وراء هذا التباين الملحوظ في مشاعري؟!
في قلب شبه جزيرة آيشوران، تقع باكو، عاصمة أذربيجان الساحرة. كأنما الزمن هنا أبطأ من سواها، فالمباني القديمة تحكي قصصًا منسية عن حضارات عريقة تعاقبت على هذه المدينة العجيبة.
أخطو خطواتي الأولى في اكتشاف وسط البلد والمدينة القديمة المسورة، وقلبي يعتصره شعور بالامتنان والتأمل. كلما أتوقف لأتأمل مبنى قديم، تنتابني رغبة ملحة في نظم الشعر. فهذه الحجارة الصامتة كأنها تخبرني كم من الثقافات والأزمان مرت على هذه المدينة، منذ الفتح الإسلامي بقيادة المغيرة بن شعبة، ومرورا بالدولة الصفوية وخلال عصور الإمبراطورية العثمانية، ووصولاً إلى الاتحاد السوفييتي حتى نالت أذربيجان استقلالها.
في كل زاوية هناك لقطة من الماضي، فالمساجد العتيقة والقصور الأثرية تشير بمجد هذه المدينة عبر التاريخ. وأنا أخطو خطوتي الثانية، تنتابني شعور بالسكينة والانبهار، وكأن أرواح الأجداد تحلق حولي متسللة بين ثنايا هذه الحجارة. لا شك أن هذه المدينة الساحرة، باكو، تحمل في طياتها ملامح الماضي وروح الحاضر، فهي رمز للتنوع الثقافي والتلاقح الحضاري.
قادتني خطواتي في نزهة نحو أبرز معالم باكو، إذ وجدت نفسي أمام ابراج الشعلة ومقبرة الشهداء المطلة على شواطئ بحر قزوين الرائعة. هذه المعالم الشامخة تؤرخ جزءًا من التاريخ الحديث لهذا البلد العريق.
وقفت أمام ابراج الشعلة الاثنى عشر، وهي رمز للطاقة والاستمرارية، وتعود بذاكرتي إلى المذبحة التي ارتكبها الجيش السوفياتي خلال أحداث يناير الأسود عام 1990. هنا دفن رفات الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن حرية بلادهم. قفلتُ عيني وأنا أتأمل تلك الأضرحة المتناثرة على التلة، وكأن أرواحهم الطاهرة تحلق بيننا مخلِّدة تضحياتهم.
ثم التفتُّ نحو مقبرة الشهداء، وهي شاهد آخر على محن هذا الشعب البطل. هنا دفن قتلى حرب مرتفعات قرة باغ في الفترة الممتدة من عام 1988 إلى 1994. لقد ضحوا بأرواحهم من أجل الحفاظ على وحدة الأرض الأذربيجانية. أقف أمام تلك الأضرحة البيضاء باحترام وإجلال، وأنا أتأمل بكل إعجاب صمود هؤلاء الأبطال في مواجهة الظلم والاضطهاد.
هذه المعالم الشامخة في باكو تمثل رمزًا لتضحيات أبناء هذا البلد في سبيل الحرية والاستقلال. إنها شاهد على مآساة التاريخ وبطولات الشعب الأذربيجاني.
انه أحدُ مساءات مايو ، مساءٌ ساحر حقًا في المدينة القديمة، السماء عالية والهواء منعش، والقمر متوهج بضوئه الرقيق، وكل شيء ينطق بالسكينة والتأمل انني في هذا المقهى الصغير، أجلس أنظر إلى برج العذراء المرتفع، والذي يتوج هذه المدينة التاريخية بكل هيبة وجلال. هذا البرج الشامخ كان قد شاهد مرور الأزمان والحضارات، وظل شامخًا كحارس أمين على هذه المدينة وذكرياتها.
أشاهد النجوم تتلألأ بقوة في السماء الصافية، وأستعيد بذاكرتي صور العصور الماضية. كيف كان أولئك السكان القدامى ينظرون إلى هذه النجوم ويتأملون فيها، ربما باحثين عن إجابات لأسئلتهم الوجودية أو مستلهمين منها ألوانًا من الإبداع والخيال.
أتناول رشفة من قهوتي الساخنة وأتلذذ بطعم الحلوى اللذيذة، وأنا أستغرق في تأملات عميقة. هذه اللحظات الساكنة تمنحني راحة البال وتذكرني بأن هناك جمالًا وسحرًا في البساطة والهدوء . لا أشعر بالحاجة إلى تدوين هذه الأفكار أو مشاركتها مع الآخرين. أكتفي بالتمتع بها في صمت، مستمتعا بكل لحظة من هذا المساء البارد في المدينة القديمة.
مع قدوم الليل تلاشى ذلك الهدوء الذي تغّلف مدينة باكو خلال النهار، واندفع مكانه صخب لا يكاد ينفك عن أنحاء الشوارع والأزقة. كأنّما تختبئ تلك الضجّة في كل ركن وزاوية، تنبض بالحياة وتصرخ بصوت عالٍ.
وما إن تحوّلت الطرقات إلى ساحات رقص، حتى اخترقت نغمات الموسيقى جوانب المدينة الهادئة، لتُحيلها إلى لوحة حية تجسّد وجوه الناس المارّة، والجالسين في المقاهي والمطاعم، والساهرين في النوادي الليلية. هناك، يتجمع السكّان والزوّار على حدٍّ سواء، منغمسين في الرقص والاستمتاع.
وبينما تصدح أصوات المرور والضحكات المتقطّعة في الليل، تملأ الأنوار المتوهّجة السماء بوهج خفيّ، كأنّها تحلم بعالم ما بعد الفجر. هنا، الوقت لا معنى له، والأيام تتداخل في ليل لا ينجلي. فالحياة تنبض بكل طاقتها، رافضة الخضوع لسكون الليل أو راحة النهار.
هكذا تتجلّى باكو في حلّة الليل، مدينة لا تعرف الراحة ولا تنام، بل تُصبح لوحة متحرّكة من الضوء والحركة والصوت.في إحضان الليل المخملي، يبرز وهج خفي يملأ السماء البعيدة. كأنما الأنوار المتوهجة تحلم بعالم ما بعد الفجر، عالم لا حدود له ولا قيود.
وسط هذا المشهد الساحر، ينطلق الناس في رحلة لا تنتهي، يجتازون الطرقات وهم يلهثون خلف أحلامهم أو يفرون من همومهم اليومية. فالجميع هنا يسعون دائمًا إلى ما هو آت، متجاوزين حدود الزمن والمكان.
في هذه المدينة التي لا تنام، الوقت لا معنى له، والأيام تتداخل في ليل لا ينجلي أبدًا. فحتى الصباح يبدو وكأنه امتداد للظلام الحالك، لا بداية ولا نهاية.
إنها حياة تنبض بكل طاقتها، صارخة في وجه الزمن،هنا الحركة والنشاط لا ينقطعان، والأضواء لا تخبو أبدًا. لذا، يحق لهذه المدينة أن تفتخر بلقبها: “المدينة التي لا تنام”.