الصحوة – نصر بن منصور الحضرمي
في ظل التطور التكنولوجي الهائل الذي شهده العالم في السنوات الأخيرة، بات السؤال عن مدى اكتفائنا الرقمي يطرح نفسه بقوة.
ففي مسيرة البشرية على مدى العصور، كان البحث عن الاكتفاء، دافعا قويًا لتطور الحضارة ، فمنذ الآف السنين سعت الشعوب إلى تحقيق الاكتفاء الغذائي من خلال عدة مصادر كالزراعة والرعي والصيد، فكلما استطاع الإنسان زيادة الغذاء بكفاءة تحرر وانطلق للابتكار والتطور في المجالات الأخرى .
ولكن منذ الثورة الصناعية أصبح هناك مفهوم آخر للاكتفاء الذاتي، حيث أصبحت الشعوب تسعى إلى التصنيع الذاتي للسلع والأدوات التي تحتاجها، فصار التنافس بين الدول في الصناعة والتكنلوجيا مما أسهم في التطور الهائل الذي شهدته البشرية في القرن الحادي والعشرين في مختلف المجالات .
فالشعوب التي استطاعت أن تحقق الاعتماد الذاتي في التصنيع وقامت ببناء قاعدة صناعية قوية، أدى ذلك إلى الحفاظ على وحدتها الوطنية ، ووفرت لنفسها سبل المناعة فاستطاعت الوقوف أمام التحديات السياسية دون أن تستسلم للضغوط الخارجية، كما أن امتلاك هذه الدول قدرات تصنيعية متطورة مكنها من التصدي بفاعلية أمام التحديات الطبيعية والكوارث التي تفاقمت في الأونة الأخيرة نتيجة لمشكلة الاحتباس الحراري وتخلف خسائر مادية وبشرية هائلة في مختلف أنحاء الكرة الأرضية.
لم تكن ٢٠١٦ مجرد سنة عادية بل هي بداية تحول جديدة وقفزة كبيرة في تاريخ البشرية فقد بدأ في هذه السنة يتردد مصطلح الذكاء الاصطناعي في الأوساط العلمية والتقنية، وأزداد البحث عن هذا المصطلح في السنوات التي تلتها، فشهد نمو متسارع، مما جعل كبرى الشركات مثل مايكروسوفت تستثمر مليار دولار في “أوبن إيه آي” لأول مرة في عام 2019، وتضخم حجم استثمارها منذ ذلك الحين إلى نحو 13 مليار دولار، وتعتمد بشكل كبير على نموذج “أوبن إيه آي” في تطوير برنامج الدردشة الآلية الخاص بها “كوبيلوت”.
كما سارعت بعض الدول في ضخ الكثير من المال للاستثمار في الذكاء الاصطناعي وهذا ما تسعى إليه تايوان الذي يشكل “كومبيوتكس” أكبر معرض سنوي للتكنولوجيا في تايوان، وتملك مصانعُ توفرُ أشباه الموصلات المكونات الرئيسية لمنتجات كثيرة، من أجهزة “آيفون” إلى الخوادم المستخدمة في تشغيل برنامج “تشات جي بي تي”
كما أعلنت حكومة تايوان عن نيتها تخصيص ما يصل ١٧ مليار دولار لدعم مشاريع الذكاء الاصطناعي.
إن هذه المراهنة الكبرى التي تراهن عليها كبرى شركات التكنلوجيا في العالم على الذكاء الاصطناعي، لابد أن نكون نحن من ضمن الركب ، لكي لا يفوتنا قطار الذكاء الاصطناعي مثل ما فاتنا قطار الثورة الصناعية التي شهدها العالم سابقا. فالذكاء الاصطناعي يُعتبر الثورة التكنولوجية القادمة التي ستغير مسار البشرية، وتُحدث تحولات جذرية في مختلف المجالات من الصحة والتعليم إلى الصناعة والنقل. ولا شك أن الدول التي ستنجح في استيعاب هذه التقنية وتوظيفها بفاعلية ستكون في طليعة القادة العالميين في المستقبل القريب.
ولابد أن نكون لاعبين أساسيين في هذا المجال، ونعطي أهمية كبيرة لتسريع الاستخدام الواسع النطاق للذكاء الاصطناعي.
كل العوامل تساعد على ذلك فالظروف السياسية والأمنية حاضرة، فسلطنة عمان تتميز بموقع جيوسياسي متميز فهي كما يطلق عليها سويسرا الشرق الأوسط إلى جانب المميزات الجغرافية كون السلطنة على مفترق طرق بين القارات الثلاث مما يجعلها نقطة ارتكاز مثالية لربط الأسواق والشركات العالمية فهذه العوامل تساعد سلطنة عمان على تحويلها إلى بلد حاضنة ومركزا في الشرق الأوسط للذكاء الاصطناعي.
فأصبح اليوم الاكتفاء الرقمي وهو حماية البيانات يعادل في الأهمية الاكتفاء و الأمن الغذائي. فلا بد من توجيه الطاقات والامكانيات ورصد ميزانية ضخمة من أجل هدف الوصول إلى الاكتفاء الرقمي الذي يتطلب امتلاك النخبة والمواهب الوطنية وهذا موجود إذا ما تم توجيه المناهج الدراسية والتخصصات الجامعية نحو هذا الهدف .كذلك الاستثمار في البنية التحتية من مصانع لتنتج أشباه الموصلات التي يحتاجها العالم، بما فيها تلك المستخدمة في أقوى تطبيقات وأبحاث الذكاء الاصطناعي.
ولابد من تسريع الخدمات الرقمية إلى المناطق النائية والمناطق الجبلية والصحراوية في عُمان، والقيام باستضافة المؤتمرات الدولية المتعلقة بالتكنلوجيا وخصوصا تقنيات الذكاء الاصطناعي لغرس هذا الهاجس في ثقافة أبناء هذا البلد وتحفيزهم على مواكبة ما هو مستجد في هذه الثورة الجديدة في عالم التكنلوجيا ولسد الفجوات الرقمية الواسعة بين مختلف شرائح المجتمع.
كذلك لا بد من سن وتأطير الأطر والتنظيمات والأشرع المتعلقة بهذا المجال وذلك لبناء نظام تكنلوجي مستدام مبني لأمن الحكومة، ولكن بدون تقييد لإبداع وطاقات الشباب التي تملك الشغف في البحث في هذا المجال .
وهذا بحد ذاته يعد تحديًا كبيرًا يتطلب تضافر الجهود على مختلف المستويات لتحقيقه. وتاريخيا أثبتت عُمان أن لديها الطاقات والقدرات الكثيرة للإنجاز واليوم أيضا نؤمن أن لدينا الكثير لننجزه بهدف تحويل سلطنة عمان إلى بلد ذكي للذكاء الاصطناعي.