دعا الكاتب د. رجب بن علي العويسي في مقال له اليوم بصحيفة الوطن العمانية إلى إنشاء مختبرات وطنية تمتلك الكوادر والاطر والاستراتيجيات والخطط والنماذج العملية في استشراف المستقبل, مؤكداً أن مؤسسات بمثل تلك المعايير من شأنها أن تقلل من حالات الهدر والممارسات المتكررة التي باتت تأخذ حيزا كبيرا من السياسات العليا ودور المؤسسات.
و قال العويسي أنه “من منطلق الدور المحوري الذي يتوقع أن تؤديه الدراسات الاستشرافية في مستقبل الدول والغايات الكبرى التي يمكن ان تحققها في نجاح مسارات التنمية المستدامة، عليه ينطلق تناولنا للموضوع من فرضية: أن التطور الحاصل في منظومة العمل الوطنية في المجالات التي تستهدف انتاج القوة وتعزيز التنويع الاقتصادي وإيجاد أدوات أكثر رصانة ومهنية في التعامل مع معطيات مجتمع المعرفة، والتوجهات والمبادرات التي سعت السلطنة نحو تحقيقها عبر بناء نماذج شراكات اكثر فاعلية مع مختلف شرائح المجتمع والتي ظهرت في التعامل مع رؤية عمان2040، أو على مستوى القطاعات والقضايا الاستراتيجية التي تناقشها في ظل بناء مؤشرات الرؤية الوطنية في مختلف القطاعات، فإن الأمر يستدعي الاهتمام بتدشين مثل تلك المراكز و المختبرات لتؤكد في الوقت نفسه أن تحقق نجاح ملموس وواضح ويمكن الاعتماد على نتائجه والوثوق به للانطلاقة للمستقبل بروح عالية وامكانيات نوعية”.
و رأى العويسي أن تمارس هذه المختبرات دورين أساسيين” الأول يقوم على تمكينها من تنفيذ الدراسات الاستشرافية التي تقرأ رؤى المستقبل بكل وضوح، وتضمن استيعاب الواقع وتفاصيله بطريقه اكثر مهنية من خلال توليد مؤشرات قياس وبناء معايير أداء لقياس تحقق تلك المؤشرات ومتطلبات نجاحها والانحرافات التي قد تتسبب بها العوامل الخرى الداخلية والخارجية، بحيث تبني على نتائجها اطروحات المستقبل.
و أضاف ” في الوقت نفسه تعمل على توفير أدوات لقياس الرأي العام ومعرفه توجهاته حول القضايا الاستراتيجية التي تمس أولوياته كمواطن وأولويات المؤسسات، في ظل استباقية وطنية لقراءة تأثير قضايا الثورة الصناعية والتفكير في البعد المستقبلي لها على جوانب السلوك الاجتماعي والتعليم والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والمشاركة الوطنية والإجراءات التمويلية والاستثمارية، وكيف نقرأ قضايا الباحثين عن عمل والتشغيل والموارد البشرية وسوق العمل والقطاع الخاص والشركات ومؤشرات أداء الواقع وقضايا أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية وفكرية وغيرها بعد عقدين من الزمان، وما الأدوات التي يحتاج المواطن لإعداده لتلك المرحلة وما القناعات والمسلمات والأفكار التي يفترض أن تشكل هاجس المستقبل وتضعه امام الامر الواقع، وبالتالي ما يتطلبه ذلك من تبني استراتيجيات استشراف وتشخيص وقياس للرأي العام في سبيل توجيه الرأي العام وفهم مدى استعداده وتفاعله وقابليته للتكيف مع مقتضيات هذا التطور على المدى البعيد”.
و تابع قائلا ” إن اعتماد ملامح الاقتصاد العالمي الجديد بالدرجة الاولى على تعظيم القيمة المضافة للابتكار والتنظيم والإدارة والحوكمة والشفافية، والاستخدام الامثل للبرامج الالكترونية للمؤسسات للدخول بها في واقع الحياة المهنية والاجتماعية اليومية للمواطن، لبناء مسارات التحول في حياتة وتعزيز قوة التفكير والذكاء لديه ،وتفاؤله بما يستجد من عظمة من تقدمه التقنية، فإن واقع الحالة العمانية يطرح في الوقت نفسه العديد من الملفات التي تستدعي آليات أكثر رصانة وعمقا في فك التشابكات والتداخلات الحاصلة فيها بين المؤسسات، وحلحلة التحديات والاشكاليات التي باتت تؤثر في قدرة البدائل وسيناريوهات العمل المعتمدة في إحداث تحولات في التفكير ورصد مؤشرات نجاحها في الواقع وفق محددات واضحة تضمن لها الواقعية وتؤسس لها فرص أكبر لمواجهة التحديات”.
و شرح ” على سبيل المثال موقع مستقبل التوظيف ودور الدولة فيه، في ظل تعاظم دور التقنية وشبكات الاتصال بالمؤسسات ودور الانترنت وقضايا الابتكار في الآلات والروبورت والذكاء الاصطناعي والامكانيات التي يمكن أن توفرها الدول سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الأهلي و الخاص، وما يمثله ذلك من تبعات على الحكومات والمجتمعات والشباب من الباحثين عن عمل والأسر أن تتهيأ لها وأن تتنبه لنواتجها، بالشكل الذي يضع المجتمعات أمام قراءة شاملة وواسعة لمنظومة التشغيل والوظائف ، وحجم العمالة التي يمكن ان تدخل في قطاع التوظيف، ويحدد شكل هذه العمالة ونوع المهارات التي تمتلكه، إذ من شان ذلك إنتاج دراسات استشرافية بعيدة المدى في تأثيرها بحيث تعمل على إعادة إنتاج الواقع والوصول إلى نتائج حاسمة قادرة على رسم خريطة مستقبل الوظائف في السلطنة” .
و أكد ” نعتقد بأن التعاطي مع متطلبات هذا الواقع لم يعد مجرد حالة وقتية وليدة اللحظة، ولا هو بفعل قرار آني أو ظرفي، أو نتيجة التحولات الإقليمية والدولية الحاصلة والتحديات الاقتصادية الماثلة نظرا لعدم استقرار أسعار النفط وسعي الحكومات نحو تقوية عوائد الاستثمار وتبني سياسات ناضحة في التنويع الاقتصادي، بل هو خيار استراتيجي يستدعي بناء منظومة عمل وطنية تستجيب للمتغيرات وتتفاعل مع التجديدات وتعكس حالة الوعي والجاهزية التي تمارسها المؤسسات الوطنية في تدارك متطلباته، وتفرض العديد من التوجهات التي تؤسس نحو بناء مختبرات للدراسات الاستشرافية في اقتصاد المعرفة والقيمة المضافة والتنويع الاقتصادي والمدن الذكية والابتكار والاختراع والاكتشاف والتجريب في البحوث التطبيقية والهندسية والطبية والصحية والدوائية وبحوث التربة والمياه والنفط والغاز والمعادن والطاقة المتجددة وطاقة النانو والذكاء الاصطناعي والروبورت وغيرها، إذ من شان ذلك أن يقدم نماذج عمل تطبيقية قادرة على سبر أعماق الواقع والدخول في تفاصيله وبناء تشريعات أكثر نضجا وتوفير سياسات تتسم بالعمق والمهنية بما يتيحه وجود هذه الدراسات الاستشرافية من فرص التفكير خارج الصندوق”.
و أشار ” ..في الوقت نفسه يتيح للمؤسسات توفر بدائل أكبر في معالجات الواقع وتضمين ذلك في الخطط والاستراتيجيات التي تقوم عليها، بالإضافة إلى أن التنوع والتنويع والعمق الاستراتيجي في الدراسات الاستشرافية المستقبلية من شأنه تقويه البدائل المتاحة في معالجة التحديات الحاصلة، والوقوف على المعطيات بالشكل الذي يضمن لهذه الدراسات الإنتاجية والكفاءة والمعيارية وتوجيهها نحو صناعة قرارات استراتيجية اكثر نضجا وارتباطا بالواقع”. .
و قال العويسي أن هذا الأمر من شأنه أن يضع المواطن امام قراءة واعية لما يدور في الواقع الوطني، مستفيدا من التجارب والخبرات الدولية والإقليمية التي ستشكل رصيدا يمنح الدراسات الاستشرافية الوطنية القوة واستخدام مناهج عمل بحثية متجددة تعتمد على الاستقراء والمقارنات واستطلاعات الرأي والبحوث التتبعية والدراسات المسحية ودراسات الحالة وبحوث الواقع وبحوث المستقبل وغيرها” , مضيفاً ” هذا الأمر من شأنه مساعدة الجهود التي يقوم بها مجلس البحث العلمي في قطاع الطاقة والصناعة، وقطاع التعليم والموارد البشرية، وقطاع الصحة وخدمة المجتمع، وقطاع الثقافة والعلوم الأساسية، وقطاع البيئة والموارد الحيوية، وقطاع الاتصالات ونظم المعلومات، لتضيف هذه الدراسات لها ابعادا أخرى مرتبطة بالواقع المهني والقرار المؤسسي”.
ورأى العويسي أن الثنائيين الي أشار إليهما ” يجب أن يسيرا في اتجاه واحد للعلاقة العضوية بينهما، فالدراسات الاستشرافية تتطلب أدوات قياس مقننة ورصينة تتفاعل مع واقع العمل الوطني وتشخيص القضايا قيد الدراسة والبحث والتشخيص والرصد من زواياها المختلفة بطريقة سلسة وواضحة حتى تعطي مساحة أكبر للتحرك والمرونة والديناميكية في القرار”.
و أضاف ” في الوقت نفسه فإن الحكم على كفاءة الأدوات والجاهزية فيها ترجمة عملية فعلية للدراسات الاستشرافية ، إذ أنه بقدر رصانة الادوات يأتي ناتج الدراسات أكثر قوة وتعبيرا عن الواقع، لذلك نعتقد بأننا بحاجة إلى تكامل هذين الاداتين في قراءة مستقبل العمل الوطني، ومن جهة أخرى نوكد على أن لا يقتصر دور هاتين الأداتين على فترة دون أخرى، او مجال دون غيره، بل إن يتم تقنين الأدوات بشكل يضمن قابلتها للتطور واستيعاب التحول والتجديد الحاصل في القضايا المختارة بناء على مراحل التشخيص والرصد، وبشكل يستوعب فيه احتياجات المؤسسات، هذا من شأنه أن يأخذ في الحسبان الجهود التي تقوم بها المؤسسات والمبادرات التطويرية والاثرائيه بالمؤسسات، وما إذا كانت هذه الجهود والمبادرات قادرة على توفير معالجات واعية وتوفير سيناريوهات قادمة ، وهو ما يجعل هذه الجهود امام مراجعات مستمرة وقراءات مستفيضة بما يوجه المؤسسات نحو العمل المطلوب منها”.
ورأى العويسي أن مؤسسات بمثل تلك المعايير من شأنها أن “تقلل من حالات الهدر والممارسات المتكررة التي باتت تأخذ حيزا كبيرا من السياسات العليا ودور المؤسسات، وتعزيز الاستثمار في البرامج ذات القيمة المضافة في واقع حياة المؤسسات والتي ستكون بمثابة قواعد عمل وموجهات داعمة في إنتاج برامج ذات قيمة فعلية تخدم المؤسسة وتتكيف مع الرأي العام وتستجيب لمتطلبات القطاع الذي تعمل فيه” .