الصحوة – مصعب الشكيلي
بعد أن قرأت “فلسفة الصيام” للرافعي، رحمه الله، وما أضافه إليّ من فهْم كان ضيقاً، وبما أشبعَ حاجتي من إدراك كنت في أشدّ الحاجة والرغبة إليه؛ طمحت آمالي وشطحت, وحطت رحالي واستقرت، واستراحت نفسي وهدأت، على الكتابة عن فضائل رمضان؛ ولكن بعد عميق تأمل وطويل تفكر، في خدمة العنوان تذكرت أن الأولين لم يبقوا للآخرين شيئًا يضاف، إلا أن تأخذ مما كتبوه بمغراف، فاحترت كثيراً وعجزت ثم أدركت مع أول جرة قلم، كيف هو مقامي بين أساطين الأدب واللغة, فقد تمنّع عني الأسلوب، وتحدّتني الحروف والكلمات، واثّاقل قلمي وأصابعي فأصابتني الحبسة. ولولا تداركني نعمة من الله ولطف؛ لظللت على تلك الحال، وفطنت لليلة الجمعة الموافقة لسبعة عشر ليلة خلون من رمضان، ذلك أنها الموافقة ليوم بدر، ويا لها من مصادفة وموافقة عجيبة .
السابع عشر من رمضان، ليلة الجمعة، يوم الفرقان يوم التقى الجمعان, في غزوة بدر الكبرى.
يوم النصر المؤزر, والدروس الكبرى للمسلمين، إني لأعجز أن أجمل وصف الأحداث، وذكر المواقف واستنباط جميع الدروس ، ولكن لن يعييني ذكر اليسير منها، وإن يسيرها لعظيم. وعلى كثرة المواقف والعبر إلا أني استعنت بالله في الحديث عن ثلاثة مواقف تعالج قضية المادة التي طغت على عالمنا اليوم حتى جُعل له تصنيفاً بالعالم المادي .
وممّا يشد الانتباه ويشده الألباب أن الإسلام عالج الجوانب المادية مع أول ظهور له، رغم ما للمادة من أثر بالغ في الحياة، ومن عوامل قوية صاحبت ونازعت تلك الأحداث وقت حصولها، وسأحاول جاهداً ألا أغفل – ولو في إلماحة سريعة – بعض المواقف في هذه الغزوة المباركة ذات الشأن العالي.
علم الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما خرج لقتال؛ وإنما لطلب عير قريش، ولكن الأمر انجلى بإرادة الله إلى قتال وشيك، فكان لا بد من عقد مجلس استشارة حربي للمسلمين، ولم يطب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى سمع رأي الأنصار من سيدهم سعد بن معاذ، الأمر في ظاهره أن الأنصار قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على النصرة والمنعة داخل أسوار المدينة، فما موقفهم وهم خارجها !؟ فكان ذلك الحوار التاريخي : ظل الرسول يكرر : أشيروا علي أيها الناس . فقال سعد : والله لكأنك تريدنا يارسول الله . فأجاب النبي: أجل .
وهنا سيوضح سعد طبيعة العهد والميثاق الذي قطعه الأنصار في بيعة العقبة، قائلاً : “يا رسول الله، آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة…”
إن تلك العهود والمواثيق التي قطعها الأنصار على رسول الله في الحقيقة، لا يحدها تاريخ ولا جغرافيا، وإنما هي مطلقة لله. واتضح ذلك جلياً في قول سعد : امنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق. انتهى.
فكان هذا الرد من الأنصار يؤكد إيماناً صادقاَ وجازما منهم، كان الرسول في حاجة لمعرفته .
أما وقد استقام المنسم بالمسلمين على الخيار الدامي، خيار ذات الشوكة، فكان لا بد من اتخاذ وضع الجندية والاستعداد للقتال، والتخطيط العسكري، والأخذ بالأسباب، واعتماد مكان المعسكر، وهو ما تمثل في رأي الحباب بن المنذر عندما عرض رأيه على النبي وهو القائد الأعلى لقوات المسلمين، حين اختار مكاناً يعسكر فيه، قائلاً : أمنزلٌ أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فكان الجواب دالاً على قبول الرأي : بل هو الرأي والحرب والمكيدة. وهذا دليل على شرعية المشورة وفرضيتها، وليس أدل عليها من قول النبي صلى الله عليه وسلم : “أشيروا علي أيها الناس” في الأولى, و”الرأي والحرب والمكيدة” في الثانية.
ولنا أن نتساءل : فيم كان دعاء النبي وتضرعه أشد التضرع وخضوعه أشد الخضوع لله قبل المعركة؟ ألم يعده الله بالنصر في قوله تعالى :” يعدكم الله إحدى الطالئفتين أنها لكم “؟ نعم وعده بالنصر بلا شك، ولكن النبي يؤدي وظيفة العبودية ويرسخ عبادة الدعاء بين المسلمين في الشدة والرخاء.
أما ما عاجله القران بالعلاج في ثلاثة مواقف, بثلاث ايات, فهي “المادية” التي ظهرت متبدية في ثلاث صور مختلفة، خلفت أثراَ وأذى ظاهراً وخفياً . كان لزاماً على القران أن يكون صارماً حازماً في معالجتها، خصوصاً وأنها مع أول تجربة جهاد ظهرت بين المسلمين غير حيية.
* الموقف الأول : وقت خروج المسلمين في طلب العير، فهم أرادوا العير وأراد الله النصر. نعم إن المسلمين لم يخرجوا لقتال ولكنهم عقب نجاة القافلة وقرار القتال، ظهر عليهم كُره القتال. وصوّر الله الموقف أوضح تصوير في قوله تعالى:” وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين”. فقد تعلقت أماني المسلمين في المال.
* والموقف الثاني، ما حدث بعد النصر، فقد تسابق جماعة من المسلمين لجمع الغنائم، بينما جماعة منهم أخذت في ملاحقة المشركين،. بينما جماعة أخرى أحاطت بالنبي خشية الكرّة على غرّة. وحدث نزاع بين المسلمين في أحقية امتلاك الغنائم، فكان الدرس لهم والعلاج بالأمر بفض النزاع وحل الخلاف وإزالة أسباب الشقاق والرجوع إلى الله والرسول . لذلك لم تأت الآية بالتفصيل في طريقة تقسيم الغنائم، بل جاء الأمر بالانصراف عن الغنائم، قال تعالى:” يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين”.
* والموقف الثالث، كان إزاء الأسرى، فقد رأى أبوبكر الفداء، ورأى عمر القتل في حق الأسرى، فهوى الرسول رأى أبي بكر، ولم يهوَ رأي عمر، فأخذ بالفداء . وهذا أمر دنيوي طبيعي، وكلاهما أراد الصواب.
مرّ عمر بن الخطاب عقب الحادثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يبكيان فاستفهم عن سبب بكائهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:” للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، قد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة ” قال تعالى:” ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم”.
ولمن تأمل حال المهاجرين من فقر وبؤس، فقد تركوا أموالهم خلفهم في مكة، ولك أن تتفكر في حال الأنصار وهم يقتسمون أملاكهم مع إخوانهم المهاجرين دون تردد، وكان هذا الحال واضحاً جلياً في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إنهم جياع فأشبعهم. اللهم إنهم حفاة فاحملهم. اللهم إنهم عراة فاكسهم”.
ومع ذلك لم يتساهل القرآن في قضية الماديات ، وكان لا بد من معالجتها وإبعادها عن مسائل الإيمان وقضايا الدين الكبرى، التي يجب أن يكون أساس الحكم فيها نابعاً من نظرة شرعية لا تشوبها شائبة. فكان هذا الحذف والإقصاء للمادة في المواقف المفصلية الأولية في تاريخ الإسلام بأشد ما يكون العلاج والبتر. فعالج الموقف الأول بالدم، والموقف الثاني بالرجوع إلى الله وفض النزاع وإصلاح ذات البين دون الالتفات إلى موضوع الغنائم، وعالج الموقف الثالث بالتهديد والوعيد .
التذكير بهذه المواقف التي جاء بها ذكر المادة في مقابل مسائل الإيمان، وتحليل طرق العلاج أدعى وأحوج ما تكون الأمة إليه اليوم وقد تكالبت المادة على الإنسان من كل صوب وحدب من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر برضاه وعنوة. حتى أصبح المال معيارا تقاس به قيمة المرء.
وأيم الله، إن هذا مما أضرّ بالأمة وأنزلها مكانها التي هي عليه اليوم من الضعف والخنوع والضعة بين الأمم.
والسلام عليكم.