الصحوة – جهينة القرينية
لم أنسى ذلك المشهد غير الاعتيادي بالنسبة لي، والذي يخلو من الإنسانية، وهو يحكي معاناة فتيات كثيرات بإحدى الدول الفقيرة بشرق آسيا، نتيجة جشع أصحاب القرار فيها، عندما تم بثه وقتها على إحدى القنوات الوثائقية العربية، ذلك المشهد الذي يكشف الوجه الحقيقي والمزيف للعلامات التجارية العالمية، فهو يقدم صورة بالغة في الدقة تتمثل في المتاجرة بالنفس البشرية وانتهاك حقوقها، وعلى الرغم من أن هذا المشهد قد وقع على نظاري منذ سنوات ليست بالقصيرة، إلا إنه لا يزال عالقا في مخيلتي، مشهد لفتيات في عمر الزهور يعملن ليل نهار، وعلى كل واحدة منهن أن تقوم بتجهيز أكثر من 100 “بنطالون جينز” في اليوم الواحد، مقابل مبلغ لا يصل إلى 10 دولارات شهريا. وبعد الانتهاء من صناعة كل بنطلون، حفر في جلدته “صنع في فرنسا”، مشهد آخر لطفلة عمرها لا يتجاوز 10 سنوات أيضا، تصنع كرة القدم ذات صباح شتوي بارد، في دولة آسيوية أخرى فقيرة، تباع تلك الكرة في الأسواق العالمية بمئات الدولارات، بينما هي لا تحصل على أكثر من 5 دولارات شهريا، ثم يحفر وضمن مساحة خصصت لغرض الترويج في الكرة “صنع في إيطاليا”، وفي إحدى الدول التي دمرتها الحرب نتيجة الصراع مع الاتحاد السوفيتي، يقف طفلا حليق شعر الرأس في “عصرية” ثلجية، ليضرب بمطرقة لا تستطيع يده حملها على سندان حديد ضخم، ليخرج لنا بعد سويعات بمسدس بالغ في التعقيد ليقتل به طفل آخر في إحدى الدول العربية أو دول أمريكا اللاتينية، ثم يحفر في إحدى جوانبه “صنع في الولايات المتحدة الأمريكية.
تتكرر هذه المشاهد العفنة التي تتغذي على جهد وراحة الفقراء من البشر، وتنهك طفولة بريئة للملايين من المحرومين في العالم، بينما هناك علامات تجارية تسوق لها على إنها تمت صناعتها في دول العالم الأول وبأحدث التقنيات التي انتجتها البشرية. وهذه العلامات التجارية ما هي إلا طريق لتغذية العالم بأفكار الموضة الخداعة البراقة الغريبة في أطوارها. فالمتتبع لأحوال البشرية، يرى ذلك السواد في وجوه من أدعوا الحرية والمساواة بين الشعوب، لا سيما في تلك الدول التي مزقتها الحروب والمجاعات نتيجة تفكيكها تحت إطار الديموقراطية الزائفة أيضا.
فاليوم نرى ذلك الممثل على سبيل المثال الذي يتابعه المئات من الملايين من البشر على وسائل التواصل الاجتماعي وهو يرتدي “بنطلون” يزعم إنه اشتراه من السوق الفرنسية بمئات الدولارات، بينما هو الآخر حقيقة انتهك براءة مئات الفتيات الفقيرات في دول لا تتوفر فيها أقل سبيل العيش للملايين من البشر. وهكذا تستمر الحكاية، فأطفال افريقيا ليسوا ببعيد عن هذا العالم المليء بقاذورات البشر، عندما نعلم أن صحتهم ومعيشتهم تتاجر بها أغلب الماركات العالمية التي تذهب لتسجل حضورها في التبرع لهم، تقول للعالم إننا نعمل من أجل البشرية، ولكنها في الحقيقة هي تسوق لنفسها من أجل شهرة مدفوعة التكاليف. ولا ريب أن مؤسسات المجتمع المدني لا تزال تحارب هذا التطرف الإنساني ولكن في غالب الأحيان دون جدى، ولكن يبقى لنقول “لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا”.