نورة بنت سيف المالكي
يقول ويليام شكسبير: “أصعب معركة في حياتك عندما يدفعك الناس إلى أنْ تكون شخصًا آخر” وشكسبير صدق في ذلك مرات عديدة، ليس آخرها حينما قالت لي زميلة ذات يوم – نقلاً عن زوجة من زوجات المشايخ – ما تعانيه وأسرتها من موضوع اللقب، فقد أصبحوا تحت المجهر في أغلب ما يقومون به كأنهم ليسوا بشرًا ولا تسري عليهم قوانين البشرية! كانت أسئلة الناس غريبة حين تتصرف هذه الأسرة بشكلٍ طبيعي كالنزهة أو التسوق أو السفر وما إلى ذلك، فقد كانَ تصور الناسِ الذهني عن المتدينين أنهم متقوقعين ومنعزلين وكل حياتهم دين في دين! لمْ أتعجبْ مما سمعته منها؛ لأنني سمعتُ حكايات مشابهة من لسان أشخاص متدينين حيال الإرهاق النفسي الذي سبَّبه لقبهم ومكانتهم الدينية، وهذا ما يجعلهم غير مرتاحين ومتناقضين وغالبًا ما يكونون شخصيات خاضعة منقادة. خلصتُ إلى قوة ما يصنعه (اللقب) في حياتنا، وكيف يمكن أن يضعنا تحت سيطرة الآخرين، وكيف يمكن لهذا السحر أن ينقلب على الساحر ويقتله!
إنَّ تكاثف فكرة البحث عن “لقب” لتشكيل هوية ما أو نوع من إثبات الذات أو الحصول على الرضا النفسي أو لأي دافع إيجابي هو في أبعاده السامية فعل جيد وهدف طبيعي تقريبًا، ولكن عندما ينحو الشخص منحى آخر غير الذي ارتكز عليه من أهداف، وغير ما تريده الفطرة الإنسانية؛ فإن اللقب ينقلب عليه ويصبح بمثابة انتحار اختياري، فالبحث في مهنة أو مشروع أو في موهبة عن اسم للتباهي، أو عن مكانة اجتماعية خدَّاعة، أو عن وجاهة استعراضية، أو البحث عن الأنا (المغرورة – المتعالية) على الآخرين هو ما يجعل القيود واردة وتؤول بمآلات سلبية تسمم صاحب اللقب عينه قبل أنْ يؤذيه الآخرون بل تسبب له اختناقًا وإرهاقًا نفسيًّا وحياة غير طبيعية ومزدوجة لم يحسب لها حسابًا.
كم مرة شعرتم أنكم لا تريدون شيئًا غير امتلاك أسمائكم؟ ذات مرة انتابني إحساس أنني بحاجة إلى التخلي عن كل ما أملكه ورميه في أقرب سلة مهملات بسبب ما آل علي من ضغط اجتماعي مما أسميه (الجَلْد) إذ يبدأ – غالبًا- من الأهل فيمارسون معنا دور الجلاد الرقيب العتيد على أقوالنا وأفعالنا ويحسبون لخطواتنا ألف حساب، ويعاملوننا في بيوتنا حسب لقبنا الوظيفي أو العلمي … وهنا تحصل المفاجأة إذ نصاب بالعطب في شخصياتنا من خلال الازدواجية في الشخصية والتصنع بسلوكيات لا تعكسنا أبدًا، ونحاول إرضاء الآخرين على حساب إرضاء أنفسنا، ونجتهد أن نكون ما يريدونه لا ما نريد.
السؤال المهم يقول: لماذا لا يدع الرقيب الإنسان يعيش وفق طبيعته؟ لماذا يجب عليه أن يناقض ذاته وينافق مجتمعه من أجل خاطر عيون السجانين الذين قد يتسببون له في أحيان كثيرة بحالات نفسية من الضغط الاجتماعي؟ إذا كان رب العزة يرد على من قال عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء جميعًا: ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ) الفرقان7، فرد الله تعالى على لسان نبيه: ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) الكهف 110. فلماذا نلجأ إلى محاكمة الناس بألقابهم ونضيق الخناق عليهم؟ هل هو حكم إعدام باسم اللقب؟ أو هي عنجهية السلطة وطمع (الأنا) المفرطة في العلو والغلو؟ كلنا محكومون باللقب ما دمنا على كراسي المهنة أو تحت درجة علمية معينة أو حتى على المستوى الاجتماعي مثل: شيخ أو رجل دين أو معلم وغيره، وهذا لا يعني أن نتخلى عن ألقابنا ولكن لكل لقب وقته ومكانه بل إني أدعو أن نعامل كل إنسان وفق إنسانيته، وننزل الأشخاص منازلهم الحقيقية، ونوفر لبعضنا المناخ الطبيعي بأن يتصرف الشخص حسب سجيته، ونسمح لهذا اللقب أن يأخذ حجمه. فلا نجعل رجل الدين إلهًا ولا نجعل المعلم شيئًا مقدسًا غير قابل للخطأ، وهكذا دواليك. ولنتريث قليلاً فلا نجعل اللقب هو شغلنا الشاغل فنلهث وراء الدال أو الأستاذية أو الشهادات العملية والخبرات من أجل غايات غير نبيلة تخنقنا وتعذبنا في نهاية المطاف وتأخذ بنا إلى مشنقة الإعدام بأيدينا!