خواطر حاج ..
(١)
الاستعداد للحج لايشبهه أي استعداد، استعداد يصعب وصفه والوصول إليه أغلب الرحلات نستعد لها ماديا دون أن نعطي الجانب الروحي ذاك الإهتمام وتبقى رحلة الحج رحلة روحية تحلق روحك سماء الطهر لمجرد ان تحظى بلقب “حاج” في بطاقة هويتك ، تشعر حينها ان الزمن لايسعفك للاستعداد لرحلة السماء فـ تسعى جاهدا أن تجد نفسك بين زحام التخلص من مسؤليات لاترغب لعقلك ان يُبقي مساحة لأجلها، التزود بفقه الحج ، ارجاع الأمانات، رد الحقوق والتبعات، توديع الأهل وأخرى عديدة..
(٢)
شعرت بعد كل الزحام الذي سبق رحلتي أن روحي لاتزال غائبة وأنني لست بالقلب الذي عزمت الرحيل به، التقطت أنفاسي وأنا في الطائرة بعد يوم وليلة مجهدة ورحت أجول بنظرات خاطفة وجوه الحجيج الذي اكتظت بهم الطائرة ، لا أدري لماذا ربما بحثاً عن سكينة استمدها من أحدهم لأبدأ رحلتي بنفس مطمئنة ولكن دون جدوى. أحدهم يبحث عن مكان أنسب لأهله وآخر يريد وجبة اضافية وآخر يتبادل الحديث مع زميله..
استسلمت للنوم بعدما أقنعت نفسي أن الإرهاق هو السبب لحالتي هذه.. وكان نومي عميقا رغم الخواطر الكثيرة التي اجتاحتني في فترات انقطاعه ووصلنا المطار في وجهتنا إلى المدينة المنورة .
احسست بنشاط لحظة مغادرة الطائرة كان أكثر ما أذكر فيه نفسي ومن معي أنه ربما اجراءات طويلة بانتظارنا فعلينا أن نستقبلها بصبر ولكن الحمدلله سارت الأمور أسرع وأيسر مماكنت اتخيله..
(٣)
بعد صعودنا للحافلة اخترت مكانا منعزلا لأجد روحي قبل أن نصل، كنت صارمة هذه المره وقبل أن أبدأ الحديث مع نفسي قطع حبل أفكاري مكبر الصوت على لسان قائد رحلتنا المباركة ” ضيوف الرحمن سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هنيئا لي ولكم وصولنا مدينة الحبيب المصطفى”
لا أدري أي شعور هز أوصالي بعبارته الافتتاحية تلك هل لكوني ضيفة الرحمن؟ أم لأني احسست ببركة المكان حينها؟ أم لأن ثمة كيلومترات قليلة تفصلني عن نبينا الحبيب؟
استرسل الرجل في حديثه الشيق وأسلوبه الذي كان يخاطب به قلوبنا، احسست حينها ان روحي لم تكن ضائعة فقط كانت في غفوة استيقضت فور ان حلقت في قداسة مدينة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم
(٤)
دقائق معدودة كانت تفصلنا عن وقت صلاة المغرب حينها كنت أستحث خطاي بين الزحام لأصل المسجد النبوي الشريف . قاربت الوصول فدوى صوت الآذان مجللا ” الله أكبر” فيخفق قلبي وكأنني أسمع الآذان للمرة الأولى كانت كلماته تداعب قلبي لتبعث في داخلي سكينة وطمأنينة لاتوصفان مماجعلني استقر حيث كنت اتوسط جموع النساء اللاتي افترشن ساحة الحرم .. كان النسيم باعثاً للاسترخاء .. تنفست بعمق وشرعت لأصلي تحية المسجد. لحظات ويقيم الإمام للصلاة وتقام صفوف النساء خلفه بإنسيابية تجعلك تدرك معنى أن تتوحد أمة وتنقاد خلف نداء ” الله أكبر” .. كان للصلاة الأولى في المسجد النبوي مذاقاً مختلفاً رغم انها لم تكن الأولى في حياتي لكنها الأولى في رحلة الحج،، صلاة اسكبت فيها كل المتاعب وانخت كل ماحملته من زخرف الدنيا لأقبل على الله متجرداً من كل شي..
(٥)
كانت الأيام بطيبة طيِّبة تزيدنا طُهراً وتغسل قلوبنا..
تبث في أعماقنا شوقاً لأيام الحج وتهذب أنفسنا للقاء الأعظم..
وعلى أعتاب الانتظار كان ثمة لقاء جدير بالإحتفاء..
كانت لـ زيارة قبر الحبيب وخلفائه – الصديق والفاروق- وقعها العظيم على نفسي لما اعتملتها من خواطر جياشة، وقتها مرَّ شريط حياته – ﷺ – سريعاً أمامي.. سال دمعي حين استوقفي ما لاقاه من أذى وماتكبده من مشاق لنكون خير أمة أخرجت للناس ،، وكيف ان رقينا هذا وسمو أرواحنا الذين نعيشه اليوم لم نكن لنصل إليه إلا بجهد جهيد منه ،، وأن ملايين الأفئدة التي لازالت تهوي إلى أرض مكة جاءت بأمر من الله وامتثلت في ذلك سنته.. أي رجل بعظمتك يارسول الله _بأبي انت وأمي_ سلام الله عليك ورحمته وبركاته.
(٦)
وبعد عمرة التمتع يدنو اللقاء ونقف على أعتاب التأهب وتمضي الأيام بطيئة على غير العادة نحاول خلالها جاهدين أن نتزود بكل ماينقصنا روحياً وأن نشحذ الهمم ونعد العدة لنكون في قوافل التائبين ولا أعلم إلى الآن ان كُنا قد أحَّسنا الإستعداد ولكن ما أعلمه يقيناً أن اللقاء كان عظيماً جداً لاترقى إلى مقامه الكلمات ..
في تجاربي السابقة لم يكن الإحرام يلامس جانباً روحياً في داخلي .. بل كان مجرد بوابة دخول للعمرة غالباً ماتطغى عليَّ فيه مشاعر الخوف من أن أقع في شيئاً في محظوراته وتنتهي تلك المخاوف فور التحلل.
لكن هنا كان له مذاقاً مختلفاً، كنت استشعر العبادة وأجد لذة الدخول للقاء الأعظم “الحج” .. حينها احسست انني خلعت الدنيا وبدأت أُطهر عيني ممارأت وأذني مماسمعت ويدي ممابطشت وقدمي مماسعت ونفسي مما أسرَّت وأعلنت فيما لايرضي الله .. وبعدها ارتديت أبسط ماعندي لألقى الله وأمضي في زورق الآخرة .. ركعتي الإحرام كانت هي الفاصل بين الدنيا والآخرة ً، لمجرد انقضائها أحسست أن ثمة حياة أخرى لابد أن نحياها حيث لارفث ولافسوق وجدال ..
(٧)
كانت مِنى قنطرة العبور الأخيرة ، تغشى السكينة ركابها وترى سيماء الطهر على وجوههم ،، لباس الإحرام الذي يوحدهم لم يكن إلا رمزاً فاقته وحدةً رابطة الدين ؛ فتراهم متلاحمين كالجسد..
مرت المشاهد سريعاً في مِنى ولاتزال حيةً في ذاكرتي كأنها وليدة اللحظة، أصوات المكبرات التي ضجت يومها بالذكر والدروس كانت تمنح ربوع مِنى دفئاً وأٌلفة .. لتأتي ليلة التاسع رحبة تنام على ذراعيها آمال الغد المخبأة في قلب كل حاج..
(٨)
وتصحو مِنى بِمن عليها قبيل الفجر لتنافس الشمس في طلعتها على خير يوم طلعت فيه. ويبدأ السباق فتسير الوفود شُعثاً غُبرا – على أوتار التلبية صٌدحاً- إلى صعيد عرفات المبارك يباهي بهم الجليل ملائكة السماء.
وتكتسي عرفات حلة الطهر ليضج على إثرها التكبير والتسبيح والتحميد والتهليل وتخشع القلوب لخطبة الحج الأعظم وتنكسر النفوس المثقلة بالذنوب لتقف بين يدي خالقها وقفة خاشعة ..
وقفة عرفة لايدرك فضلها ومنزلتها إلا من وقفها بين تلك الجموع الباعثة للهيبة .. كيف لاوهي مشهد مصغر ليوم الحساب حين يبعث الناس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأنسابهم، حين تدنو الشمس من رؤوس الخلائق ليطول بهم الانتظار ويسكنهم الوجل على أي مصير سيكون مآلهم.. كان هذا حال الحجيج بعد زوال شمس عرفة كلٌ مشغولٌ بحاله يقف متذللا لله يناجيه حباً، ويتضرع إليه ذلاً ،ويسكب العبرات على مامضى وفات .. حتى اذا دنت الساعة الأخيرة واقترب للناس حسابهم ، ضج المكان بدعاءٍ جماعي ورٌفعت الأيادي جميعها بصوت واحد “ياااااااارب” .. كان الشيخ يردد الدعاء بصوتٍ عذب والجميع من خلفه يُؤمن، امتزجت معه مشاعر الهيبة والخشية والرجاء وسالت مدامع التائبين ” يااااااالله”..
دقائق وتغيب شمس عرفة ويخفق قلب كل حاج طمعاً في أن يكون مع الزٌمرة التي قيل لها : “قوموا مغفورٌ لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات” .. ويٌعلن الغروب وتبدأ ليلة العيد وكأنها ليلة عرس يٌزف الطهر فيها إلى مزدلفة وكل وفدٍ منهم يعجَّ “لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك”.
(٩)
ونفرنا مع وفود الحجيج تسابق أقدامنا أرواحنا التي طهرتها بركة عرفات كأسراب طير .. يعتملنا النشاط وكأننا في صحوة صباحية، نتأمل المكان الذي ترك آثار الحجيج النافرين ونتنفس الهواء الطلق .. جالت بخاطري أعوام الحج الماضية وكيف اننا نضيَّع يوم عرفة ببركته العظيمة لهثاً وراء الدنيا بدعوى استقبال العيد.
هنا ملايين تقف بين يديّ الله يوماً بأكمله في تضرع وخشوع وتبقى وجلة من القَبول ؛ ونكتفي نحن هناك بوقت يسير ونظن اننا أدركنا شيئا من بركته.. يااالله شكراً لأنني كنت اليوم من بين هؤلاء الملايين الواقفة على صعيدك استقبل بعده عيداً مختلفاً لايشبه كل الأعياد المنصرمة..
ووصلنا مزدلفة التي احتضنت أجساد الحجيج الطاهرة وكان المبيت في العراء أعمق أثراً في اتصالنا بالأرض لِتُذَكر النائمين عليها : “مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ”.
(١٠)
فجر العيد في الحج يعني ان تكمل مسيرة الجهاد التي ابتدأتها قبل أن تبلغه.. لايأتيك العيد نائماً ليوقظك بل أن تصحو قبله وتسعى لإيقاظه .. ان تطوي مسافات طويلة سيراً على الأقدام حاملاً ذنوبك التي جمعتها بيسر لتتكبد عناء التخلص منها وتحظى بفرحة العيد.. وما ألذه من عناءٍ وما أعذبها من مشقة تلك التي تلاقي بعدها العيد بلا ذنوب .. تستقبلك الجمرات كما استقلبت غيرك لِتُلقي ذنوبك المتمثلة في حصيَّاتٍ سبع تلقيها في قلب الجمرة الكبرى.
” الله أكبر كبيرا، والحمدلله كثيراً، وسبحان الله بُكرة وأصيلا” صدحت بها الحناجر لتعيدني إلى الشعور الذي توقظه في داخلي كل صباح عيد ولكن هنا من أرض مكة ومن افواه الحجيج إلى مسمعي كان له وقعاً أجمل وأثراً أبلغ ..
كانت فجاج مكة وشعابها في صخب يكسوها البياض وترى مشاهد النحر والحلق في كل مكان تقع عليه عينك لتفرح مع فرحهم معلناً بدء العيد. وعجبت من شفقتنا على الحجاج لكونهم بعيدين عن أعياد ذويهم لأُدرك أن عيدهم أجمل وفرحتهم أكبر بدون مبالغة.. عيد يسكن قلوبهم النقية وأرواحهم الطاهرة ، حين جاهدوا في سبيل الوصول إلى هذا السمو الروحي،
(١١)
ونعود لزيارة البيت الحرام نجدد العهد مع الله بالتوبة والإخلاص بسبعة أشواط نطوفها حول الكعبة وأخرى نسعاها بين الصفا والمروة لنستشعر ان حياتنا التي ستبدأ بعد هذه المرحلة الفاصلة لابد ان تكون على وتيرة الإستعداد لحياة الخلود وان استمرت على روتينياتها الدنيوية، واستمر معها اقتراف الذنوب كان لزاماً علينا التخلص منها ومن تبعاتها .
ومن هنا تجسدت تلك الحياة في أيام التشريق وتخَلُصَنا من الذنوب بعد زوال شمس كل يوم في رمي الجمار الثلاث..
كنا نسير وفوداً في طريقنا إلى الجمار تعلو الأصوات بالتكبير فيقشعر بدني من هول الجموع التي تنساب كخلية نحلٍ في طريق واحد وتسيل الدموع فرحاً لإنتهاء فريضة الحج وتنتشي النفوس وفي قلب كل منها دعوةً لا تفارقها بأن تُرزق الحج المبرور، والسعي المشكور، والذنب المغفور.
(١٢)
شرعت مكة – موطن الطهر، وملاذ التائبين – منذ اليوم الثاني عشر تعانق حجاجها الموَّدعين لبيتها الحرام لتزفهم مواليداً جُدد إلى أوطانهم ..
وشرعت أنا على مقعد الطائرة استرجع كل هذه الخواطر واتنفس اللحظات واحبسها مع كل زفرة خشية ضياعها قبل أن أدونها كاملة وابان حديثي مع نفسي تذكرت المشهد الأول في نفس المكان وذاك الصخب الذي امتلأ به الجو استحال سكينةً وهدوء ورأيت الجميع نيام قد اضناهم جهاد الحج تاركاً هالة من صفاء الذهن كيوم ولدتهم أمهاتهم.
كتبت – ابستام الحراصية