قبل كل شيء علينا أن نؤمن بأن الأرزاق قدر محتوم وأمر كائن بين الكاف والنون حيث قال الله عز وجل “وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ” (22- سورة الذاريات) مع التأكيد على أهمية البحث عن الرزق والعمل بأسبابه.
قال أبو العلاء المعري :
هذا جناه أبى علىَّ وما جنيت على أحد
ثلاثةُ أيام هى الدهرُ كلهُ وما هنَّ غير الأمس واليوم والغد
حب البقاء وحفظ النوع غريزتان ماديتان فطر عليهما الإنسان إلا أنهما وبحسب العديد من المفكرين فإنهما لا ترتبطان بالتفكير وإنما هي “غرائز” تتفاوت حدة سطوعهما عند البشر إذا تمكنوا من التحكم فيهما والسيطرة عليهما وفق نواميس الكون، أما إذا انفلتت زمام السيطرة تحولت إلى قانون الغاب الذي يمنح البقاء للأقوى في كل الصفات “اللإنسانية”، فتلقي تلك الغرائز الإنسان في الضنك والتعب لمجرد أنه يفكر في توريث كل شيء لمن يأتي من بعده بحجة أنها حقوق ممتدة للقادمون خلفه ضمن شجرة العائلة، فيكون الهم الأساسي هنا للكم وليس للكيف أي: عليه أن يتمدد أفقيا ورأسيا ليتملك ما يقع أمام عينية لأنه أحق به من غيره، باختلاف طرق الاستحواذ والاستيلاء.. وما يراه “الأب” حق أو شبيهه، فقد يكون الأبن فيه ضحية لجشع أو طمع غير مبرر.
عندما يقع الأبناء ضحية الآباء فتلك مصيبة تجري في عروقهم لا يستطيعون التخلص منها إلا بعد عقود من الزمن.. وعندما يجني الآباء على أبنائهم بما اقترفته أطماعهم فتلك علامة مهلكة لمستقبلهم لا يتحررون منها إلا بإسدال النقاب على وجوههم.. وعندما يرتدي بعض من الآباء عباءة الوقار والأمانة والإخلاص والتحلي بالوطنية فتلك أوهام لا تفتأ بأن تتلاشى كفقاعة جرها الفاعل إلى الظهور لتختفي رويداً رويداً، أو كزبد البحر الذي يذهب جُفاءاً رغم أمواجه العاتية وزئيرها الهادر.. لأن الإنسان حفنة من الطمع تزيد بزيادة المنصب وتقل بمعرفة الإنسانية حدودها في الحياة.. والفرق بين الشخصيات شتان، فمنها ممتلئة بالزور والبهتان، ومنها حراب على الطغيان ونبذ العصيان.
المجاملة والكذب والخداع لا تسير بالمرء بعيداً.. فلا بد لها من يوم تقع في شر فعلتها وعنفوان بذخها وحبها لنفسها.. ومع تضارب المسؤوليات الاجتماعية والسعي الحثيث نحو بلوغ الغنى فقد تزايدت الأطماع بين الناس، فأرادوا أن يكونوا من الوجهاء بحكم المنصب الذي ينصب بفعل يجر خلفة الكثير من المصالح الخاصة قبل العامة، وبذلك تحتم عليهم ارتداء قناع المثالية، وضربوا بأيد من حديد لكي يجنوا ثمار ما يسعون إليه.. فكان فكرهم يقول: اليوم لي وغداً لغيري، وبذلك أراد أن يضمن لأبناءه ولنفسه مستقبلاً لا ينضب معينه من خزينة لا تحس بالنقص في فترة من الفترات دون أن يسأل نفسه، من أين لك هذا يا صاحب المنصب؟!
كانوا يظنون بعدم وجود حسيب أو رقيب لما يفعلون فعاثوا بأفكارهم لمد نفوذهم المالي إلى حيث الاستراحة السويسرية للمال.. فتجاوزا الخطوط العامة .. وضيّقوا الخناق على البشر والحجر بحجة هذه هي القوانين والإجراءات فعلينا أن نتبعها بحذافيرها، لكن على أنفسنا ومن معنا فلا قانون يردعنا ولا كاشف يكشف نوايانا.. فكان التزوير بيئة لهم وكانت الرشوة معبراً لتنفيذ مخططاتهم.
بالمنصب تمتعوا واستمتع أبناءهم معهم، وتحت ستار المسمى الذي يسبق الاسم زرعوا في أنفسهم ثقة ما يفعلون بأي شكل ووجه كان، مهما كانت شرعية الفعل، فأحلوا لهم ما حرمته القوانين الوضعية والشرعية.. فتماروا في تجاهلهم، وشمّروا عن سواعدهم في جني ثمار غيرهم للترفيه عن أبناءهم الذي رفعوا رؤوسهم لأنهم أبناء المنصب الذي يسبق الاسم، فسافروا مع السحاب في العنجهية والتآمر، كأنهم المخلدون في الأرض.. وتناسوا بأن يوما آت سيدفعون ثمن العيش الرغيد الذي جناه أباءهم عليهم، عندما تنكشف السوءة.
حوادث كثيرة وقعت لأصحاب الوجاهة بعد ما وقع المنصب وصاحبه في غيابت التمحيص والتشكيك، اتضحت ما تخفيه خدورهم، واتضحت نهاية الطريق الذي كشف صنوف التزوير والفساد الإداري فوقعوا في المسائلة القانونية، وجردوا من مناصبهم.. فتضررت سمعتهم فحمل أوزارهم الأبناء الذين تكبدوا خسائر الشرف الاجتماعي بين أقرانهم، فلم يستطيعوا الخروج من البيت لأن النظرة بألف بمعنى، فكانت نظرات الآخرين عليهم تصلت كالسيوف تقصمهم إلى نصفين فقرروا المغادرة إلى خارج الحدود ليبدأو صفحة جديدة، تتعرق فيها جباههم.
فهل يحق مجتمعيا أن يحاسب الأبناء على جريرة الآباء؟ ولماذا لم يدرك الأب أفعاله قبل بلوغها حلقوم المسائلة؟ ولماذا تعمى النفوس بأطماع المال؟ والإجابة على هذا السؤال واضحة كل الوضوح وهو لابتعاد هؤلاء الآباء عن قيمة الإيمان الحقيقية، فكانت النفس ضعيفة فتضاعف عليها الران(وهو السواد الأعظم من الرياء والكذب والنفاق والكفر) “بل ران على قلوبهم”، فمسخت بحب المال وعظمة المنصب الدنيوي الزائل… فمن اجل غريزة البقاء ورثوا أبناءهم الشقاء فجاء الأبن ليقول هذا ما جناه والدي عليّ!.
أسر تشردت آمالها وطموحاتها، وأسر كثيرة تسربت أهداف مستقبلها.. وذلك بسبب فكر الآباء الذين غزاهم الجشع المادي وسيطر عليهم حب المال حبا جما.. فنسي أن الأرض تدك دكا دكا.. وسوف يسألون عما جنوه في خزائنهم التي ستكوى بها جباههم..
هلال بن سالم الزيدي
كاتب وإعلامي
abuzaidi2007@hotmail.com