محمد الجزمي
تقول الكاتبة فوزية البدواوي في روايتها “ذاكرة من حنين” : “ليس هناك سجن أقسى من سجن الإنسان لنفسه”.. عاشت أحلام سجينة نفسها بالفعل، سجينة حنينٍ دعنا نصفه أنه أجوف.. منذ بداية الأحداث حينما ماتت أسرتها قررت بدلاً من دفنهم أن تدفن نفسها في قبر الحزن، فلازمت الكآبةَ فترة طويلة، مرضت وعانت، ثم أحبت، فلما فقدت حبها عادت وسجنت نفسها بنفسها من جديد سجنًا آخر، متوهمة أن الحب هو الملاذ وهو الراحة وهو العوض عن كل فقد، رغم أنه مفقود بحد ذاته.
في رواية ذاكرة من حنين نحن نقرأ لكاتبة تعرف كيف تحكي، كيف ترسم الشخصيات، كيف تحيك الحوارات بخيوط من ذهب، وكيف تكتب عن دواخل النفس البشرية وتصف المشاعر بما يتطابق مع الواقع البشري.
في الصفحة 16 مثلاً كلام جميل حول الصراخ أنه علاج للألم، والألم إشعار قوي على أننا أحياء، وأن الرجل الذي يدَّعي القوة، كونه لا يصرخ ولا يعبر عن ألمه، هو في حقيقته كائن يمارس الموت البطيء، رغم أن الصراخ والتعبير عن الألم يجعل الواحد منا يفقد عقلانيته في نظر الآخرين.. من يأبه بالآخرين؟
هناك في الصفحة 53 حوار ذكي عن الأرقام الزوجية والفردية، وعن الرقم أربعة بالتحديد، يشير إلى تحليل فلسفي جميل يكشف لنا براعة الكاتبة في ربط الإنسان بمحيطه الجامد والمتحرك على حدٍّ سواء.
ثمة أكثر من شاهد على هذه البراعة من الكاتبة؛ حديثها عن قوانين نيوتن مثلا، وعلم النفس، وكلام في علم الجرافولوجيا.. هذه الأيقونات ربطتها الكاتبة بشخصيات وحوارات وأحداث الرواية بإتقان، يدل على مهارتها الكتابية.
أعجبتني كثيرًا شخصيات الرواية ، وما ترتب على وجودهم من تأثير وأثر في مجريات الأحداث هي ما أشعلت فتيل الحماس في الرواية، أقواهم بلا شك شخصية ياسر (الطبيب والحبيب، الحقيقة والوهم، العلاج والمرض، الغائب والحاضر) الذي كان ولا يزال، واستمر طويلاً، هو التشويق واللغز الذي جعل للرواية نكهة تميزها، جذبتني كقارئ لتقليب الصفحات، وزادت الأمرَ حلاوةً نهايتُه؛ كيف اتضح أنه سبب الخذلان كله بعد أن كان الأمل المترقَّب، هذا زاد من قوة وجوده في الرواية وحبكتها.
ثم جاء الفصل الثاني وقصة الابن ياسر الذي تعتريه أعراض غريبة، لم يتم تفسيرها إلا متأخرًا، شخصية مثيرة بحق وتشويق ملائم لما آلت إليه الرواية.
تقول الكاتبة فوزية البدواوي في روايتها: “السعادة كالنجاح، قرار نتخذه لا قدرًا ننتظره”.. ليس أقوى من هذه الرواية لتوضيح هذه الحقيقة.