الصحوة – الدكتورة نوال بومعزة
في حقيقة الأمر، أردت أن أكتب وجهة نظري في هذا الموضوع الشائك بعد أن تابعت لقاء فكريا مع الناقد والباحث البحريني نادر كاظم ضمن لقاءات باحثون.
بعد طرح هذه الإشكالية: هل وصل النقد إلى طريق مسدود؟ يفتتح الناقد حديثه بمقدمة صادمة ــ حسب تعبيره ـــ عن مصير النقد العربي الذي يعرف حالة من الانكماش والاعتزال عن باقي مناحي الحياة، وبعد تقديم العديد من الحجج والتحليلات خلص الناقد إلى أن النقاد العرب في الفترات الأخيرة أصبحوا يكتبون لأنفسهم، ممّا جعل وظيفة النقد منحصرة في الاهتمام بشكل النص والبحث في جمالياته، الـأمر الذي جعله محصورا إلاّ في الوسط الأكاديمي.
لم تكن هذه المداخلة الأولى ــ ولا الأخيرة ــ التي عالجت هذا الموضوع الذي يؤرقنا كنقاد أكاديميين، بل سبقت هذا الطرح العديد من الملتقيات والندوات وكتبت عنه الكثير من المقالات، لكن المسألة لم تحل بعد. وحسب تصوّري فإنّ تكرار هذه الإشكالية ظاهرة صحية تحاول إيجاد الحلول لهذا الطريق المسدود.
بدا الناقد نادر كاظم منشغلا ومهموما، في تحليله ودعوته لتخليص النقد العربي من غربته، التي فرضتها التطبيقات العشوائية لآليات المناهج النقدية المعاصرة ومنجزات النقد الغربي إلى حد الإغراق في الاهتمام بالشكل، أو ما يعرف بأدبية الأدب، هذه المناهج الدخيلة التي فرضت علينا، وتعد غريبة عن خصوصية النص الأدبي، فتحوّلت من خلالها الدراسات الأدبية إلى شبه مخططات ومنحنيات وإحصائيات، هذا وتحفظ الناقد على منهج النقد الثقافي الذي أعاد نوعا ما الحيوية والنشاط والتواصل مع المجالات الحياتية الأخرى.
لقد أصاب الناقد في العديد من آرائه حول الغلو في توظيف هذه المناهج والآليات، لكن لا يجب أن ننكر أنّ العديد من الدراسات النقدية الجادة التي اعتمدت هذه الطرق والنظريات والمناهج قد أفلحت في استنطاق العديد من النصوص الأدبية، وخاصة التراثية منها، حيث أعيدت قراءة كتاب ألف ليلة وليلة، وكتب التوحيدي، وكليلة ودمنة.. وغيرها من أمهات الكتب التراثية بشكل جديد، وبانفتاح أكبر، حتى الناقد نادر كاظم قدّم كتابا نقديا مهمّا عن المقامات والتلقي، ووّفق في ربط هذا النص التراثي بنظرية التلقي وسياقه الاجتماعي والتاريخي. لقد مكنّت هذه المناهج من الانتقال النوعي في تحليل النصوص ولامست العديد من جوانب النص بكل موضوعية، لكن الغلو في توظيفها هو الذي حوّلها إلى عبء ثقيل على الناقد وعلى القارئ العادي الذي لا يلتفت حتى لقراءتها لصعوبة مصطلحاتها وغرابة الترجمة والتعريب، الأمر الذي يجعلها نصوصا منغلقة. فضاؤها الوحيد الوسط الجامعي، أو الندوات العلمية الفكرية.
طبعا، إذا سلمنّا بنظرة الناقد نادر كاظم وغيره ممن اهتم بهذه القضية الخطيرة، فإنّنا بحاجة إلى مراجعة أسباب هذه الظاهرة، وتحديد الوظيفة الحقيقية للنقد، من المسؤول عن هذا التأزم؟ هل هو الناقد ومرجعياته؟ أم أننا لا يجب أن نحمّله كل هذه السلبيات، فهو كغيره من التخصصات الأخرى التي تؤكد انعزالها يوما بعد يوم بالرغم من أنّ تسمياتها مرتبطة كل الارتباط بحياة الانسان وواقعه، ماذا قدّم محللو علما النفس والاجتماع للمجتمعات العربية؟ معظم شعوب الأمة غارقة في الجرائم والآفات والظواهر اللاأخلاقية، تخصصات تصوغ محاضراتها من جوهر النظريات الغربية، والأمر ذاته ينطبق على العديد من التخصصات.
أقول، النقد الأدبي المعاصر ضحيّة مثله مثل باقي مجالات العلوم الأخرى التي تخضع للتبعية، ولم نبحث عن هويتنا وخصوصيتنا، من جانب آخر لو أتيحت الظروف الثقافية والسياسية المساعدة والمرافقة للنقد لفتحت مجالاته للبحث، فلا مجامع لغوية عربية موّحدة، ولا اتفاق في العريب والترجمة ونقل النظريات ومصطلحات المناهج، ولا هيئات نقدية متخصصة في غربلة الدراسات النقدية وتصنيفها، والأدهى والأمر التهميش الذي طال النقد والأدب والثقافة بشكل عام ممّا عمّق الفجوة بين الناقد والقارئ العربي الذي يجهل مجال اهتمامه، حتى من قبل الطبقة المثقفة لتخصصات أخرى. ناهيك عن الغياب التام لفعل القراءة، فللأسف الشديد مجتمعاتنا لا تقرأ المتيسّر من النصوص، فكيف تقرأ تحليلات عن أعمال إبداعية أدبية، وكأنه ضرب من الخيال.
حسب تصوّري للمشهد، فلو توفرّت الفضاءات الإعلامية الثقافية للنقد والنقاد، مثلما تخصص لبرامج ال fashion ، والألعاب الترفيهية والموسيقى لكانت العلاقة وطيدة بين نسبة كبيرة من القرّاء والنقاد العرب عن طريق برامج تخصص لعودة المناظرات، والمعارك النقدية والمسابقات الفكرية، مع الإكثار من استضافة النقاد والمشتغلين في هذا المجال من طلبة وأكاديميين، ونشر هذه الأفكار على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي وسائل التواصل المرئية والمسموعة، فمن شأن هذه العوامل المهّمة والفاعلة أن تنشر تخصص النقد وتخرجه من الدائرة الضيقة التي وضع فيها. وسيصبح جزءا لا يتجزأ من الحياة العامة، بل سنشهدــ بحول الله ــ اقتراحات ونظريات عربية جديدة بإمكانها رسم نقد عربي خالص له الخصوصية ومستقل بذاته، هنا فقط يمكننا أن نأمل عودة سوق عكاظي جديد.