الصحوة – مصعب بن خميس الشكيلي
أكثر ما اشتهر عن العرب حديثهم، وتأريخ أيامهم، وذكر بطولاتهم وأمجادهم من خلال الشعر. بل أنهم استخدموه في بث الرعب عند خصومهم، وإقناع الغير بالتحالف معهم، فكان بمثابة الإعلام بكل أنواعه، الحربي والسياسي، والترويجي الدعائي.
ثم دخل فن النثر في مجال الخطابة، بكل ما فيه من سحر البيان البلاغي الذي برع فيه العرب، وأسلوب الإقناع، مستخدمين في ذلك ما برعوا فيه وأجادوه؛ فتنافس النظم والنثر كصنعة، ومن يقوم بهما كصنّاع لها .
في العصر العباسي، ومع تطور الأدوات التعبيرية، انتقل الأدب من المشافهة إلى الكتابة والتأليف. فأُعيد سرد أشعار العرب قبل الإسلام، بالكتابة. فوقع جدال قديم يتجدد في صحة القصائد بمجملها أو صحة رواية من نسبت إليه، ومثله وقع في النثر عند نسخ الكتب القديمة والجدال مستمر حتى الآن.
ويعتبر الكاتب والأديب المغربي عبدالفتاح كيليطو، ممّن أعاد فتح هذه الملفات، محاولاً تبيان أساليب النقد وتفتيق الذهن وبناء أسلوب النقد لدى القاريء والكاتب على السواء، في كتابه “الكتابة والتناسخ”. الذي نشرته دار التنوير للطباعة والنشر، والكتاب الذي بين أيدينا هو الطبعة الأولى منه والذي صدرت في عام ١٩٨٥م.
قسم المؤلف كتابه إلى تسعة فصول، سنأتي عليها جميعا، وقدمها بتمهيد، وضح فيه ضرورة نسبة الكتاب إلى مؤلفه أو الشعر إلى قائله، ثم بيّن الفرق بين السرقة الأدبية، التي يصفها بأنها نسبة كلام الغير للنفس، والانتحال الذي يراه أن يُنسب كلامٌ لامريءٍ ليس هو صاحبه. وركز في تمهيده بالكلام عن الانتحال وأن الطريقة لكشفه هي بناء حاسة النقد، فرتب النصوص التي يعتمد عليها الناقد ليبني حسه النقدي. فذكر القرآن الكريم فالسنة النبوية وهما الوحيان الصادقان الثابتان، واللذان يقويان تلك الحاسة، ثم الاعتماد على الشعر الجاهلي، وهو مصدر حقيقي يضاف إلى القرآن الكريم والسنّة المطهرة، باعتبارها النبع الصافي لتلقّي السمين الذي يرفع الذائقة النقدية .
وشدد الكاتب على ضرورة وقف عملية الانتحال الأدبي، من خلال وضع قواعد تضبط عملية التأليف والنسخ، ثم يؤكد على الناقد اقتفاء أثر المؤلف الأصلي. وأن هناك من الاستراتيجيات التي تساعد الناقد على كشف المزيفين، وعلى النقيض فإن المزيفين قد وضعوا أدوات واستراتيجيات مضادة للكشف ومباديء للانتحال، حتى لا يتم اكتشافهم.
والآن مع متن الكتاب والفصل الأول الذي وضع له عنوان “تناسخ المقطوعات الشعرية”:
وقد استفتح كيليطو هذا الفصل بالبيت التالي لعنترة :
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهّم
واستفتاحه بهذا البيت هو لمناقشة عدة نقاط، يراها محل نقاش وجدل بين النقاد .
* الأولى : استفتاح القصيدة بذكر الأطلال، وهو إن صح التعبير ما تعارف ودرج عليه الشعراء، خاصة الأقدمون في مطالع قصائدهم.
* والثانية: وصف محاسن المحبوبة، وهذه الصفة مرتبطة بما قبلها في استفتاح القصائد.
وتعد هاتان النقطتان مما عرض الشعر القديم للنقد بسبب تكرارها عند كل شعراء العصر الجاهلي وهم كثير، ولكن عبدالفتاح كيليطو قد رأى للأمر منظورًا آخر جعله من إيجابيات الشعر الجاهلي بل ومن التحديات التي تقع على عاتق الشاعر . فبرغم التقليد الذي وقع فيه عنترة، وهذا لا يخفى على أحد، إلا أنه استطاع إيصال صوته بقصيدته إلى الجمهور، وهذا من خلال إعادة رسم هذه الأطلال التي امّحت عبر الزمن رسمًا بديعًا حيًا من جديد. وقد برر ابن رشيق هذا التقليد والتكرار الحاصل عند الشعراء بمقولة الإمام عليٍ كرم الله وجهه حين قال:” لولا أن الكلام يعاد لنفد”. ثم أن الشعراء كانوا يأخذون الإجازة على شعرهم ليكونوا شعراء ممن هو أعلى منهم درجة في الشعر. وذكر قصة حصول أبي نواس على الإجازة من أستاذه ” خلف” وكيف اختبره بحفظ ألف مقطوعة للعرب ثم نسيانها. كيليطو أثار تساؤلا هو جدير بالاستفهام عنه. جميعنا يدرك معنوياً استطاعة الحفظ عن إدراكٍ ووعيٍ، ولكن كيف يمكن للمرء نسيان ما حفظ برغبة النسيان؟ ثم كيف يتيقن الأستاذ بأن تلميذه قد نسي فعلاً ما كان قد حفظه؟
الفصل الثاني:
وناقش فيه المؤلف ثلاث نقاط هي: السرقة، التوليد، والاحتكار وجميعها في الشعر.
أما السرقة فكما قال ابن رشيق:” لا يستطيع أحد من الشعراء أن يدّعي السلامة منها”. فكل بيت وكل قصيدة لها ما يماثلها في المعنى في قصائد أخرى. والاستشهاد يمكن أن يكون قسمًا من السرقات. فالاقتباس الذي يكون بنص قرآني أو حديث نبوي، والتضمين الذي هو استعارة أبيات من الشعر لشاعر آخر هي تقع في دائرة السرقات فكيف للشاعر أن ينفك من سرقة المعاني من أبيات وقصائد أخرى.
أما التوليد : فهو توليد واستخراج معان جديدة لم يسبق الشاعر إليها أحد قبله، والتوليد متجدد وهو إنما يحصل بسبب عدم اكتمال المعنى.
أما الاحتكار : فهو أن يشتهر أو يعرف عن شاعر تميزه وتمكن من معاني غرض من أغراض الشعر فيكون عليه حكرًا، ثم إنه إن قال في غيره جاء شعره ناقصاً أو قد يكون عرضة في نسبته إلى غيره، ممن تمكن في ذات الغرض. وهو ما وقع “لجميل بثينة” الذي عُهد منه شعر الغزل في حبيبته بثينة التي كان متيماً بها، فلما قال :
ترى الناس ما سرنا، يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
وهذا بيت في الفخر، ويعدّ من أفضل ما قالته العرب في الفخر، لو نُسب هذا البيت للفرزدق الذي عُرف بهذا الغرض من الشعر لما أنكر عليه أحد ذلك. ولذا فقد ردّ عليه الفرزدق بالقول : “متى كان الملك في بني عذرة، إنما هو في مضر وأنا شاعرها”.
الفصل الثالث :
طرح كيليطو في هذا الفصل قضييتن للنقاش مع التحليل.
– قضية غرض المدح في الشعر
– وقضية السرقة والانتحال.
فالمدح في الشعر العربي شائع ورائج، بالأخص على بلاط الأمراء والملوك. فالمدح كما عرّفه المؤلف هو مجال تعاقد ضمني أو صريح بين شاعر وأمير، يقدم الشاعر الثناء مقابل أجر من الأمير يكافئه عليه. وقد يُخل أحد الطرفين بالعقد. ربما يبخل الأمير، فيخرج الشاعر من بلاطه لأن القصيدة لم تعجبه، أو لعله لا يفي بوعده . في المقابل؛ لا يفتقر الشاعر إلى الخبث والدهاء، فربما يهجو الأمير إن منعه، أو لعله يستعمل القصيدة لمدح أمير آخر. وهذا ما يدفع الأمراء لتجنب شرّ الشعراء ومكافأتهم.
وفي الحقيقة عندما يمدح الشاعر الأمير ويكافئه فكأن الأمير أدى ثمن القصيدة، فمن الواجب أن تكون القصيدة حكرا عليه وحده. فهي كاللوحة الشخصية المرسومة لشخص معين لا تنفك عنه.
والأمر هو كالتالي، ينظم الشاعر القصيدة في مدح أمير، ثم يقوم فيمدح أميرًا آخر طمعاً في مكافأة أخرى بنفس القصيدة في الأولى.
النقاد وضعوا ضوابط صارمة في صفات المدح، فللمك صفات وللوزير صفات، وللقادة صفات، لا يُمدح أحد بصفات غيره. إلا أن الشعراء لا يمكن الإحاطة بمكرهم. فاتخذوا من نصيحة أبي تمام لأحد تلاميذه حيلة :” كن كأنك خياط يقطع الثوب على مقادير الأجسام”. فنظم الشعراء أثوابهم بصفات عامة. فالتي تكون في أمير فإنها تصلح لبقية الأمراء، والتي تكون في قائد، فإنها تصلح لكل القادة وهلم جرا. فاستطاع الشعراء استخدام القصيدة الواحدة لأكثر من أمير وجمع المكافآت منهم. وعلى الشاعر الحذر، فهذه تُعد سرقة ذاتية، وهي لا تناسب الشاعر المقيم في بلاط واحد، وعلى الشاعر أيضاً أن يكون أسرع من قصيدته في الوصول إلى البلاط الجديد، فيهرب بجلده قبل أن يُكشف أمره.
أما قضية السرقة الذاتية، فهي تقوم وتصلح فقط في غرض المدح الذي من ورائه مكافأة، بينما لا يمكن أن تعمل في غرض الفخر ولا الغزل ولا الهجاء.
الفصل الرابع :
هذا فصل خصصه المؤلف لذكر مذهب أهل الحديث في اقتفاء الصحيح منه دون الموضوع والمكذوب. فبيّن طرق التثبّت من الأحاديث الصحاح. وهي عن طريق الذوق الذي يكتسب حساسيته ومهارته من ملازمة الصحاح من الأحاديث والموضوع منها. ومن الطرق أيضا تتبع سلسلة الرواة التي هي الأسانيد. ولم يغفل أهل الحديث عن نقد المتون لتفقد مطابقتها للأصول.
الفصل الخامس :
يدور الحديث فيه عن الشعر، وعن المعلقات على وجه الخصوص، وعن وجوه الطعن في صحتها. فالناقد يجد نفسه مضطراً لقبول روايات الشعر الجاهلي كما وصلت إلينا لصعوبة التمييز بين الصحيح والمنحول من الشعر، بالإضافة لعدم وجود نص لا يشك أحد في صحته، فيكون هو المشكاة التي تنير الدرب في الكشف عن المنحول.
وبالرغم من الشكوك التي تحوم حول الشعر الجاهلي، إلا أن هناك أسباباً دفعت علماء اللغة لدراسته. من بينها، أن الشعر الجاهلي يعتبر وسيلة جيدة في تبسيط فهم صعوبات القرآن اللغوية وشرح معانيه، وأيضاً فإن في الشعر الجاهلي ذكرٌ لأيام العرب وكل ما يتعلق بهم.
أما الأسباب التي تدعو لانتحال الشعر، فهي ثلاثة :
– الأول : العصبيات الجاهلية، فالشعراء يتنافسون في إظهار قوة القبيلة ومفاخرها.
– الثاني: النزاعات السياسية. – والثالث : يميل بعض النحاة لنحل الشعر ليثبت صحة قاعدة نحوية.
وقد يقول قائل : بما أن هذا الشعر قد أجمع عليه من صدق بصحته بأن له قيمة شعرية، فما الذي يدعو للبحث في منحوله وصحيحه، ومن وضعه. فنقص له قصة “خلف الأحمر” لنجيب عليه. قال رجل لخلف الأحمر، وهو أحد علماء البصرة في النحو وأحد أكبر الرواة، إذا أنا سمعت بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلتَ فيه وأصحابك. قال خلف: إذا أخذت درهماً فاستحسنته، فقال لك الصراف إنه رديء ، فهل ينفعك استحسانك إياه !.
الفصل السادس :
يتطرق إلى مناقشةٍ في النسيب وبيانٍ في أصل الغزل عند العرب إذ أن الرجل هو المتماوت والمرأة هي التي تقاوم وترفض، والعكس عند العجم واقع. إلى أن جاء عمر بن أبي ربيعة فأخلّ بهذه القاعدة.
ثم تحدث كيليطو عن النوادر وقسمها إلى نوادر معتمة، وشفافة، ونموذجية.
فالمعتمة لا دليل على أربابها، والشفافة معروفة الشخصيات، أما النموذجية فهي التي أصبحت علامة على صاحبها، فمنهم من أشتهر بالصدق فأصبحت هذه الصفة علامة له، ومنهم من عُرف بالكذب فلا يُصدّق بعدها أبدا. لذلك كان على المزيف أن يدرك هذه الحقيقة عند التندر، فيورد الوعظ مع الزاهد، ويورد المجون مع الفاسق.
الفصل السابع:
وضح الكاتب في هذا الفصل شأن من ينتحل ثم يعترف بالكتب المنحولة. بل يطالب المنتحل بإعادة نسبة هذه الكتب إليه.
فمثل لنا بالجاحظ، حيث أنه في بداية تأليفه خاف حسد الحساد، فعمد إلى تأليف الكتب ونسبتها إلى كتاب سابقين من الأموات، فقد نسب بعض كتبه إلى ابن المقفع. ثم يوم لاقت هذه الكتب قبولاً لدى العامة فتدارسوها واقتبسوها طالبهم بنسبتها إليه. وهذا ليس من السهولة بمكان. فقد تُقابل هذه المطالبة بالرفض والسخرية، فعلى الكاتب أن يبين الأسباب التي منعته من نسبة هذه الكتب إليه، وعليه أن يُثبت هذا الانتحال بشهادات من شاركهم سرّه .
الفصل الثامن:
هنا سأترك الفضول يدفع القاريء لبسط يديه على الفصل. فهنا تحليل دقيق لقصة ابن ناقيا عند وفاته. والمجابهة بين ابن ناقيا المسجى عند التغسيل بين مغسله.
الفصل التاسع:
يفاضل كيليطو بين الكتابة على الورق والكتابة على الجلد. فهو يرى أن الكتابة على الجلد أبقى للكتابة وأسهل لتقليب اليدين.
ثم أورد المؤلف قصة لأحد الأدباء الذي عِيب عليه لثغة في لسانه فاتقى سخرية الناس بانتقاء الكلمات التي ليس بها راء، وقصة الشاعر الذي يصعب عليه نطق بعض الكلمات لعجمة في لسانه فاتقى شر الناس بخادم له ينطق بشعره.
بهذا الفصل اختتمنا مقالنا وإن كان به شيء من الإطالة فهو لتجاوز الاختصار المخلّ وعسى أن نكون قد نجحنا وجاوزناه إلى الطويل غير المُملّ.
والكتاب قد لا يفهم من بدايته وإنما يحتاج إلى صبر واسترسال. فمع الاستمرار يتضح معنى الكاتب ولعل هذه ميزة من ميزات الأدباء أو لعل موضوعات الأدب تتطلب شيئا من ذلك. والسلام.