الصحوة – د. فوزية الفهدي
أهدت الكاتبة شريفة التوبيّ مجموعتها القصصيّة الجديدة” انعكاس” إلى امرأة استودعت حكايتها في قلبها ذات مساء”، وتلك كانت عتبة تقدم مفتاح القصص الاثنتا عشرة التي احتوتها المجموعة، وقد صدرت في سياق كتاب نزوى الذي يصدر عن وزارة الإعلام متساوقا مع أحد أعداد مجلة نزوى، وهو الإصدار الثامن والأربعون من سلسلة الكتب الصادرة مع أعداد مجلة نزوى.
تعبّر التوبية في مجموعة انعكاس عن “الأنا” الفعل والحضور التي تعكس مكنوناتها، وتفضح ذاتها، بما يمكن أن يعكس تنامي أفكارها الداخليّة، وتصاعد وتيرة رقابة الأفعال ومحاسبة الذات في جلسة عزلة شاع فيها السرد بضمير المتكلّم: ” أجمع تلك القطع الخزفيّة التي تناثرت على الأرض، تجرحني الحوافّ المتشظّية، ألفُّ شريطاً طبيّاً لاصقاً على إصبعي وأكمل جمع ما تناثر؛ لأضعه في علبة فارغة”… ولا يمكن للساردة هنا أن تجعل قارئها يضلّ، فهي لا تريده أن يعتقد أن الذات هنا ذكر بل هي أنثى بكل ما يحضرها من فعل وانعكاس داخلي له : ” أجلس في مقعدي المتأرجح بصالة البيت، أتأمّل الشهادات والأوسمة المعلّقة في الجدار، أتناول الجريدة، يلفتني خبر صفحتها الأخيرة، يغيّب الموت الفنّان التشكيليّ حسين سالم، أترك الجريدة جانباً، داعية له بالرّحمة وعلى كلّ الأموات الذين رحلوا ..” .
لقد كانت المزهرية التي وقعت وانكسرت انعكاساً مادياً لذات الساردة التي سقطت وتشظّت مع خبر الوفاة، ولا يفارق الذات ظلها المشلول الذي يرقب الآخر في نصّ “السحر الأسود” لتبوح عن انكسارها وخيبتها عندما يتحول شلال الشعر الأسود الطويل إلى قصّة (boy cut) لأنّ صاحبته ستتلقّى أولى جلسات العلاج الكيماوي. فتنشطر الروح المرهفة لتعبّر عن أزمتها وتفاعلها مع الآخر الذي كان ظلاً لردّة فعل صارخة في وجه تحولات الوقت وما يحمله من مآسي.
لقد مثّلت نصوص المجموعة ظلاً لهواجس المرأة وانعكاساً لآهاتها وما يشغلها بدءا من الإحساس بميل الآخر في المزهريّة ، مرورا بألمها، وشعورها بالانكسار والخيبة في السحر الأسود ونفاس، ورصدها للتفاصيل التي تؤرقها وتزاحم أفكارها وتشغلها وتأخذ جزءا من وقتها وجهدها وأعصابها في سينما، وخصوصية الأفكار التي تنتابها في علاقات وهميّة فارقة تصطنعها وتعيشها كما دمية أحبت ذاتها واحتارت إذ لم ينتبه لها آخرون، كما في نص :الساحر، وتتعمق لحظة كتابة الأنا في نص : انعكاس وهو نص واسطة العقد -كما يقال- مع نص: نزف، وهما نصّان يتوجان هواجس الذات في حوار داخليّ تتنامى معه هواجس المتلقّي ليتتبع مشاعر متضاربة، في صورة تفاعله من المشهد الراهن في الحكي، لتعكس الأنا المركّبة التي تفاعلت مع دواخلها لتنتج صورا من العناصر الفاعلة، التي تُعرّي ذات المرأة ويرصد مشاعرها وتقلبات نفسها، فنقرأ أطياف الذات المنعكسة من صورة البياض الشفيف إلى صورة التداخل اللوني الذي يعكس حقيقة الإنسان.
إنّ ” الأنا” في نصوص انعكاس سارت من المادي إلى المعنوي ومن الأرضيّ الواقعي إلى السماويّ والبرزخ، من حاسّة اللمس إلى الانعتاق الروحي لنصدم في” فراشة” والنصوص التي تليها في تنامي عمليّة التقمّص، تقمّص الذات الساردة في يرقة تطمح أن تكون فراشة، وفي ذلك انتهاء الأمان، وبدء الغواية في نظر الآخر لكنّه الدفء والحريّة بالنسبة للأنا. وفي نصّ غجريّة الذي يحكي بجرأة الأنا المنعتقة الحرّة: ” سكنتني الروح الغجريّة الحرّة، وغادرتني روح السجينة التي كانت معي حتى مساء الأمس” وها هي الروح ترقص لتبين عن رغبتها في الركض في الفراغ الممتدّ في الزمان والمكان، ولا أحد يلحق بها ولا شيء يقيّد يدها ولا حارس يحرس خطوتها القادمة. تتكرّس هذه الرغبة الدفينة التي تتوق إلى الحرية والانعتاق من المادي الملموس المتمثلّ في الواقع من خلال آخر النصوص وهو نص: السواد والبياض الذي لامس روح الذات في أن تنقل لحظات مفارقة الروح للجسد في وصف دقيق يشفّ عن نفس لديها شفافيّة مفرطة في نقل تفاصيل الانعتاق والسمو بالروح، والبرزخ الذي ربما تكون الذات مسكونة به وبملامسة بعضه، روح شفيفة تذكرنا بالمتصوّفة المتاسمين المريدين لحبّ من نوع آخر. لا يدركه إلا من أراد وابتغى طريق الرّوح.
يسكن النصوص وجود المرايا والزجاج الشفيف الذي يعكس صورة الذات في لغة تعبر عن أداة الانعكاس التي تبرز صورة الذات عند رؤيتها لدواخلها ومكنوناتها وهواجسها، كما يتنشر في عناوين النصوص وجود السواد والبياض كعلامة تعكس ألوان النفس عندما تشف عما بداخلها. وتأتي عناوين أخرى مقاربة للمادي الذي كانت الذات تسعى أن تتقمص ذواتها في رحلة الحرية، التي صورتها في الفراشة والغجرية واللؤلؤة والبرتقالة.
وفي آخر طريق القراءة يمكن للقارئ أن يلامس بعض الحقيقة من خلال الانعكاس، فقد يكون الانعكاس يحمل شيئا منا، ويخبرنا عما في نفوسنا.
حضرت الذات الساردة في أغلب نصوص المجموعة مقارنة بوجود الراوي الذي حضر في أربعة منها: السحر الأسود ،وسينما، ونزف، والبرتقالة، فتشكل كتابة الأنا : بضمير المتكلم ثلثي المجموعة، وهو ما يخبر عن “أنا ” شابتها الفوضى الانفعاليّة، وملأتها صيحات الصراع الذاتي، وهمّ التخلص والحريّة، لنفس عكست همومها صدام مع الآخر (الواقع بما يحويه)، ورغبة في الهروب والتلاشي تجتاح نفس المرأة بالفطرة عندما يغالبها الأسى ولا تجد مخلصاً لها سوى الهروب، وتمثّل النصوص في مجملها وقفة مع الذات تخبرنا عن أن “زمام المبادرة للتعبير تبدأ من أروقة الأنا ودروبها الملتوية لا من محيطها الجغرافيّ أو بيئتها، وأن نتبعد عن استنساخ الآخر وهو ما يتطلّب أمرين مهمّين في الكتابة: الأول الصدق مع الذات في إدراك ضعفها وقوّتها، والثاني امتلاك إرادة التعبير الصادق” على حدّ قول أحمد محمد اللويمي[1]
سيطرت الأنا المفكِّرة المتأمِّلة في مجمل نصوص المجموعة سواء كان ذلك من خلال كتابة الأنا أو كتابة الّراوي الناقل للحدث، وقد حرصت الذات على نقل التفاصيل الدقيقة بوعي وقراءة ناقدة، متفحّصة أوكار الذات ومبتغية فضح ظلمتها، في مشاهد متفرقة تعيشها المرأة وتتفاعل معها، نقلتها القاصّة لنقرأ صورا من العناصر المتشابكة والمتداخلة في تكوين الأنا المركّبة، التي أدركنا خصوصيّتها في ظلّ بديع يعكس صورتها عبر لغة مرهفة تحملك بين الصعود والهبوط، والممكن والمستحيل والظاهر والمخفي، والطريف اللامع مع الكامن المحيّر ، إنها طرافة اللغة الشفافة الصادقة.