الصحوة – شريفة التوبي
أليس من الغريب أن أكتب عن كتابٍ لم اقرأه، أليس من الغريب أن يرعبني العنوان قبل أن أتصفّح الكتاب، أليس من الغريب أن ترهبني الكلمات قبل الاقتراب منها؟
بحكم علاقتي بالكتب والكتابة أصبحت أعرف تماماً أن بعض الكتب أثرها لا يزول، بل يبقى عالقاً كوسم في القلب والروح، تطاردك كلماتها وتحتاج لوقت طويل حتى تبرأ منها لتقبل على كتاب آخر بعدها، كتب تتلبّس قارئها وتلازمه ليس لأنها تشبهه أو تكشف ضعفه وهشاشته، بل لأنها صادقة جداً إلى درجة الوجع، وليس هناك أكثر وجعاً من الصدق إذا كُتب، لذلك أصبحت أهرب لأنأى بقلبي وروحي من كل أسباب الوجع، فهربت من الكلمات التي تعيدني إلى وجعي القديم المتجدد.
لقد فعلتها من قبل وكتبت رسائلي إلى سُعاد، وما كانت تلك شجاعة مني حين كتبت أو حتى نشرت تلك الرسائل، بل كنت في أشد حالات ضعفي وحزني، كنت أعيش أثر الفقد الذي ما زال يُلقي بظلاله على أيام عمري، لقد عشت ذلك الوجع الذي كان يمزّق روحي وينهش قلبي كوحش جائع لا يشبع، وأني أعلم أي ألم يعيشه الكاتب حين يكتب مثل تلك الرسائل، فما بالك أن تكون رسائل يكتبها أب إلى فلذة كبده، يواجهني العنوان( رسائل إلى فدوى ) للحكواتي أو عاشق الطفولة أحمد الراشدي، الصادر من دار نثر العمانية، تواجهني الصورة على الغلاف فأخشى الاقتراب أو تصفّح صفحات الكتاب حتى اليوم رغم شوقي لقراءته، لأني أدرى أي هشاشة تنخر روحي إذا وقفت أمام هذه الكلمات، وأي ألم سيسكنني إذا قرأت تلك الرسائل، وأدرى بأني لا أملك درع من الحماية لأقرأ ما سأقرأ بكل ثقل الوجع في حروف الكلمة المكتوبة بدمع العين ودم القلب.
أدرك تماماً ويقيناً أن الرسائل التي نكتبها إلى الأموات، هي الرسائل الأصدق من أي رسائل أخرى نكتبها في حياتنا، لأننا نكتبها إلى أشخاص نعلم أنهم لن يقرأونها ولن تصل إليهم، ولا نرتجي ردّاً عليها، فهي رسائل كتبناها في الأصل لأنفسنا ونحن نعزّيها بلحظة فقد، قاصدين منها التداوي والعلاج، محاولين بها الخروج من أوجاعنا بالكتابة ولكننا نكتشف أن تلك الكلمات التي ظننا أنها تداوينا وتشفي أوجاعنا إذا بها تعذّبنا وتميتنا، خصوصاً حينما تخرج من بين أيدينا ومن أدراج مكاتبنا باحثة عن روح المكتوب إليه وإذا بها تسكن أرواح ألاف القراء الذين سيعيشون ذات الوجع الذي عاشه كاتب الكلمات في تلك اللحظة، والتي تتحول الكتابة فيها إلى حاجة ماسة وملحّة قدر حاجاتنا إلى أن نقول لمن رحلوا عنا كل الكلمات التي لم نقلها لهم وهم على قيد الحياة، وبقدر حاجتنا لأن نحكي لهم كل الحكايات التي لم تكتمل وما عادوا هنا ليهبوننا أسماعهم وقلوبهم التي تتسع (لسوالفنا) حتى السخيفة منها، حاجتنا إلى أن نحدّثهم عنّا وعن الفراغ الكبير الذي غرقنا فيه بعد رحيلهم، ولعل ذلك ما حدث عندما كتبت رسائلي إلى سعُاد، فحينما استفقت ذات يوم وأدركت أنها لم تعد على هذه الأرض، وإنها قد غابت إلى الأبد، عرفت الموت بفقدها وأدركت أنها لم تعد تسمعني وأنا لم أكمل كل الحكايات العالقة في قلبي لها، ولم تعد بجانبي لتسألني كيف الحال؟ وكنت في أمس الحاجة لأن أخبرها عن الحال، ولذت بالكلمات كي تنقذني من جحيم الفقد، واستعنت بالكتابة كي تخفف عني ما أعاني من وجع الحنين، لكن الكلمات لم تساعدني كما ظننت بل أشعلت الحنين في القلب أكثر ولم تطفئه.
اعادني كتاب (رسائل إلى فدوى) إلى حيث كان الحزن يسكن مكتبي ودفاتري ولحظات يومي ودربي، وأدرك أن الكتابة بمثل هذا الوجع شجاعة كبيرة وحب عظيم، هنيئاً للحكواتي أحمد الراشدي حكايته الأخيرة، هنيئاً له شجاعته ومقاومته للوجع وهو يخرج هذه الرسائل إلى النور، هنيئاً لفدوى جنّتها وخلود ذكراها، ولعلني سأملك الشجاعة ذات يوم لأقراء هذه الرسائل الغالية.